مهما اختلفنا في تقييم سياسة إدارة الرئيس الفرنسي أيمانويل ماكرون في الملف اللبناني سلباً أو إيجاباً، تبقى إيجابية واحدة أكيدة ومؤكدة تتمثّل في أن فرنسا هي الدولة الوحيدة، الى جانب الفاتيكان وقداسة الحبر الأعظم فرانسيس، التي تهتم بالأزمة اللبنانية، محاوِلةً مراراً وتكراراً إيجاد حلول وخرق الجمود الذي يعتري أزماته أكثر بكثير من بعض اللبنانيين الممعنين في نحر بلدهم ودولتهم والعبث بمصيره ومستقبله ووجوده حتى الساعة.
طبعاً قد لا تكون بعض منطلقات سياسة باريس الراهنة في مقاربة الملف اللبناني مطابقةً لحقيقة ما نراه كسياديين، خاصة في ما يتعلق بالموقف من حزب السلاح المحتل للدولة والمهيمن على مفاصلها وقرارها والمنفّذ لأجندة إيران في لبنان والمنطقة، لكن هذا لا يعني قطع اليد التي تمتد الينا كلبنانيين لمحاولة انتشالنا من تحت ركام الانهيار الذي بات شبه كلي في المؤسسات الدستورية والقضاء، ناهيك عن الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي الكامل.
من هذا المنطلق وفي فصل جديد تعطي باريس من خلاله دفعاً جديداً لمحاولة إنقاذ لبنان، كان إعلان وزارة الخارجية الفرنسية الخميس عن استضافة باريس يوم الإثنين المقبل إجتماعاً مخصّصاً للبنان يحضره ممثّلون عن كلٍّ من فرنسا والولايات المتّحدة الأميركية والسعودية وقطر ومصر، في محاولة كما جاء في البيان “لتشجيع السياسيين اللبنانيين على إيجاد مخرج للأزمة التي يتخبّط فيها بلدهم”
قمة “البهدلة ” أن يحثّنا الغير على أن نكون مهتمين بالخروج من أزماتنا فيما قسم من اللبنانيين وتحديداً الثنائي الشيعي لا يزال يمارس لعبة تدمير البلاد بدءاً من مقاطعة انتخاب رئيس للجمهورية، وقسم آخر ونعني التيار الوطني الحر بشخص رئيسه الذي يتابع بهلوانياته السياسية وتصرفاته الصبيانية لإيصال نفسه الى القصر في بعبدا، الأمر الذي بات أبعد بكثير مما يتصوره جبران باسيل وحاشيته المنبهرة به.
وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا وخلال زيارتها للمملكة العربية السعودية، عبّرت عن “قلقها البالغ إزاء انسداد الأفق في لبنان من الناحية السياسية”، مشيرةً الى أنّ فرنسا بحثت مع السعوديين وبقية شركائها في المنطقة سبل “تشجيع الطبقة السياسية اللبنانية على تحمّل مسؤولياتها وإيجاد مخرج للأزمة”.
تشجيع الطبقة السياسية … هنا لبّ الموضوع …
فبحسب معلومات مؤكدة وعلى الرغم من الحماسة الفرنسية لمساعدة لبنان إلا أنه، لا باريس ولا الرياض ولا الدوحة ولا واشنطن ولا القاهرة في وارد أن يقرّروا عن اللبنانيين مصيرهم وكيفية حل أزماتهم، فتلك العواصم الشقيقة والصديقة تتدخّل لمحاولة حثّ اللبنانيين على حلّ معضلاتهم لا لاتخاذ قرارات عنهم. من هنا يخطىء من يعتقد أن إجتماع باريس سيكون إجتماعاً تدخلياً في الشأن اللبناني، بل أن بيانه سيتضمن للمرة الألف ربما حثّ اللبنانيين على التفاهم على انتخاب رئيس للجمهورية وعودة انتظام عمل المؤسسات للانتقال الى مرحلة الإصلاحات في أسرع وقت، توصلاً الى تحريك آليات المساعدة الدولية سواء عبر صندوق النقد أو أصدقاء لبنان والمانحين.
مَن يتوقّع من اجتماع باريس أن تتمخض عنه قرارات تدين وتهاجم فريقاً لبنانياً، وتسمي وتفضح فريقاً لبنانياً آخر فهو واهم، ومَن يعتقد أن إجتماع باريس سيُقرّر عن اللبنانيين إنقاذ بلدهم فهو أيضاً واهم …
ما يمكن أن يصدر عن الاجتماع إطلاق مبادرة عبر دولة قطر وبمساعدة فرنسية لمحاولة تقريب وجهات النظر بين اللبنانيين ليس إلا، وإعادة التشديد على ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية، وتشجيع قيام لبنان بالإصلاحات المطلوبة منه لفتح أبواب المساعدات.
زيارة السفير المكلّف بتنسيقِ الدعمِ الدولي للبنان بيار دوكان لبيروت مؤخراً جاءت لإجراء “جوجلة” للملفات الإصلاحية كافة ولاسيما في قطاع الكهرباء والنفط، ولينقل الى المجتمعين في باريس يوم الإثنين المقبل الصورة الحقيقية للتموضع اللبناني في الملفات الإصلاحية كافة.
اذاً إجتماع باريس سيكون تنسيقياً بين الإدارات الخمس لمحاولة إيجاد سبل دفع اللبنانيين الى المضي قدماً في النهوض من الانهيار.
بإمكان الشقيق أو الصديق الحثّ والتشجيع والنصح والضغط وقطع الوعود والتوبيخ واللوم والانتقاد، لكن لا يمكنه أن يقرّر عن اللبنانيين، وطالما أن الهدف من اجتماع باريس هو تشجيع الطبقة السياسية اللبنانية على الخروج من الطريق المسدود فهذا يعني أن كرة الخروج من الانهيار كانت ولا تزال في الملعب اللبناني من خلال اعتماد الطرق الدستورية والديمقراطية.
باريس ومعها كل الدول الشريكة لا زالوا يعتبرون أن اللبنانيين قادرون إذا أرادوا إيجاد سبل حل لنزاعاتهم في ما بينهم بالاحتكام الى المؤسسات والدستور، وفي الوقت عينه لا يفوتهم ما لإيران وميليشيا حزب الله في لبنان من سطوة وتأثير مباشرين على لبنان والدولة، إنما لهذا الشق أسلوب معالجة آخر تعمل دول المنطقة وحلفاؤهم الدوليون على التصدّي له على مقياس أشمل وأعمّ وعلى مستويات مختلفة.
باريس ومعها دول مثل قطر ليست في وارد هزّ العصا لأي طرف لبناني حتى الآن، بل في الاستمرار بالمحاولات لإيجاد خريطة طريق تنقذ لبنان من ضمن الاتفاق والتوافق، لكن دون هذا النهج صعوبات يدركها الأصدقاء والأشقاء وأهمها تجاوز التدهور في الملفات الاقتصادية والاجتماعية والمالية الى انزلاق نحو مشكلة أمنية لا تُحمد عقباها، وتشكل لدى المهتمّين بالشأن اللبناني هاجساً جيو سياسياً يُضاف الى الهواجس الاقتصادية والمالية الداخلية.
يقول لنا أحد الديبلوماسيين الغربيين : “لبنان أصبح مثل الجريح النازف من كل مكان لإصابته بكسور قاتلة في مختلف أنحاء الجسم بحيث عليك توخي الحذر عند لمسه لمحاولة إسعافه كي لا تمسكه من مكان فيتدهور وضعه في مكان آخر .
اجتماع باريس لن يدخل في خصوصيات اللبنانيين من تسمية مرشحين للرئاسة وتحديد مواصفات، بل وفي أقصى الحالات سيحاول إطلاق ديناميكية عمل يأمل المجتمعون أن تحرّك الجمود القاتل في لبنان.
يبقى أن “الحاضر الغائب” الأكبر في اجتماع باريس هي إيران ومتطلباتها وشروطها … وموافقتها أو رفضها في لحظة الكباش الإقليمي الدولي معها …
أما أبرز انطباع يمكن أن نخرج به الى الآن ومنذ انطلاق التحركات الفرنسية في كل الاتجاهات لمساعدة لبنان على انقاذه فهو أن فرنسا أكثر “لبنانية” من بعض اللبنانيين وهو العار الذي يحمله لبنان كله في نهاية المطاف.