يوماً بعد يوم، ينجح الرئيس الأوكراني فولوديمير زلنسكي من موقعه كرئيس لأوكرانيا وقائد القوات المسلحة الأوكرانية في توسيع مضامين الاحتضان الغربي وبخاصة الأوروبي له.
بالأمس حصل زيلنسكي من البريطانيين على جرعة دعم سياسي وعسكري جديدة خلال زيارته المملكة المتحدة حيث التقى الملك شارل الثالث في خطوة رمزية لافتة من العرش البريطاني، خطوة تحمل أكثر من رسالة معنوية الى الروس لعل أهمها وقوف العرش الى جانب أوكرانيا في دفاعها عن حقها القانوني والطبيعي بالسيادة وصدّ الغازي الروسي عن أرضها، ومن ثم لقاء رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك الذي أعلن دعم المملكة وحكومتها وشعبها القيادة الأوكرانية ورفع مستوى التسليح البريطاني للجيش الأوكراني المقاوم .
وجرعة الدعم هذه لاقتها جرعة فرنسية- المانية مشتركة حين استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولز ليل أمس الرئيس زيلنسكي في قصر الاليزيه حيث قلًده الرئيس ماكرون أعلى وسام للجمهورية الفرنسية تكريماً للضيف الأوكراني "المميز والمناضل".
مواقف كلٍ من الرئيس ماكرون والمستشار شولز في استقبال زيلنسكي في باريس طوت صفحة من التردّد وسوء التفاهم اللذين خيّما في الأسابيع الأخيرة على العلاقات بين القادة الثلاثة، وما رمزية انضمام المستشار الالماني الى الرئيس الفرنسي في استقبال زلنسكي الا دليلاً قوياً على تخطي تلك الصفحة والعودة الى أفضل العلاقات وأصدقها وأوثقها بينهم .
هذه الجولة الرئاسية الأوكرانية على أوروبا والتي تتوّج بمشاركة الرئيس الأوكراني في أعمال المجلس الأوروبي في بروكسل لدعم أوكرانيا في نضالها المشروع والشرعي ضد الغازي الروسي لأراضيها لا تخلو من تساؤلات وإشكاليات حول آليات الدعم العسكري الجديدة لأوكرانيا، فالرئيس زيلنسكي وعن حق يطالب بمزيد من التسليح النوعي من دبابات وطائرات حربية وهذا حقه وهو القائد المقاوم مع شعبه، لكن ما دون تلبية مطالبه إشكاليات أوروبية ليس أقلها "الحفاظ على الشعرة" التي تفصل بين الدعم المطلق والكلي لأوكرانيا وعدم تورّط أوروبا في مواجهة مباشرة مع الرئيس فلاديمير بوتين .
بعبارات أوضح، ثمة إشكالية كبيرة اليوم أمام الأوروبيين في ما يختص بتزويد أوكرانيا بالمقاتلات الحربية التي تطالب بها كييف لتقوية الترسانة العسكرية الأوكرانية وتحقيق تفوّق أوكراني على الجيش الروسي ميدانياً، والتي ترى كييف أنها الطريقة الوحيدة للوصول الى سلام مع الروس.
الرئيس ماكرون في كلمته الترحيبية بضيفه الأوكراني في الاليزيه رسم خريطة طريق واضحة قوامها دعم كييف بكل الإمكانات وصولاً الى سلام في أوروبا .
هذه المعادلة، بقدر ما تعكس التوجه الفرنسي والأوروبي، بقدر ما تطرح تحدياً كبيراً أمام الأوروبيين وتوجساً من مغبة تخطي الخط الأحمر للتورط الأوروبي المباشر في مواجهة بوتين، خاصة وأن الأخير ومن خلال تصاريحه في الساعات الماضية أظهر غضباً من لندن إن هي منحت أوكرانيا طائرات مقاتلة، موجّهاً تهديدات مباشرة للحكومة البريطانية.
تجدر الإشارة في هذا السياق الى أن تزويد أوكرانيا بالدبابات الأوروبية المتطوّرة والمتوقّع حصوله في الأسابيع أو الأشهر القليلة المقبلة، لن يكون ذا فعالية إن لم يترافق مع تسليم كييف مقاتلات حربية تحمي وتنسق العمليات العسكرية لتلك الدبابات كي لا يتمكن الجيش الروسي من اصطيادها أو في أحسن الأحوال الاستيلاء على بعضها، إذ يكفي وقوع دبابة واحدة من تلك الدبابات والمدرّعات المتطوّرة بيد الروس كي تتمكن موسكو من اكتشاف تكنولوجيا تلك الدبابات، وبالتالي العمل على تقليدها أو على إعداد برامج الكترونية لتعطيل مفاعيلها الضخمة على أرض المعارك.
وبالعودة الى موضوعنا فإن أوروبا اليوم تمشي على حد دقيق وخطير فاصل بين تسليم كييف ما تريده لتحسين وضعها الميداني وتأمين تفوق نوعي حاسم على الروس، وبين تداعيات ذلك على وضعية أوروبا تجاه موسكو التي لن تتردّد في اعتبار أي تزويد للسلاح المدرّع النوعي والطائرات النوعية لكييف بمثابة إعلان حرب عليها من جانب أوروبا، الأمر الذي لا تريده الأسرة الأوروبية وتعتبره خطاً أحمر لا يجب تخطيه.
إنها العقدة التي يعمل قادة أوروبا على معالجتها، ومن هنا أهمية لقاءات الرئيس زلنسكي البريطانية والأوروبية في الساعات الأخيرة.
أوروبا تقف صفاً واحداً ومتراصاً الى جانب كييف ولا جدال أو شك في هذا، وكل العمل جارٍ الآن لإيجاد أفضل الآليات لتأمين متطلبات كييف خاصة، وكما أكد الرئيس ماكرون بالأمس عند استقباله نظيره الأوكراني بأن" لا يمكن ولا يجب أن يربح بوتين هذه الحرب على أوكرانيا".
هذا الموقف عليه مترتبات أوروبية شاملة من منطلق تعهّد أوروبا بدعم كييف حتى النهاية ،
وطبعا في فرنسا كما في المانيا والمجر، هناك بعض الأصوات المرتفعة حول ضرورة الحرص على عدم التورّط في حرب مباشرة مع موسكو، وثمة أصوات تذهب الى حد المطالبة بعقد المفاوضات الفورية مع الرئيس الروسي لحل الأزمة سلمياً ، الا أن الأكيد بأن لا الروس ولا الأوكرانيين في هذه المرحلة مستعدين للتفاوض قبل تحقيق انتصارات نوعية على أرض الميدان .
القادة الأوروبيون كما الرئيس زيلنسكي على قناعة تامة أن ما يجري في أوكرانيا لم يعد شأناً روسياً -أوكرانياً بقدر ما بات تحدياً أوروبياً لأن أي انتصار للرئيس الروسي في أوكرانيا سيعني تهديد الأمن الأوروبي مع تهديد جورجيا ومولدافيا وسواها من دول ضعيفة منفصلة عن سطوة موسكو ومتقرّبة من أوروبا شكلاً ومضموناً .
أوكرانيا ستكون أوروبية والحرب في مكان ما ولحظة ما ستنتهي على طاولة مفاوضات أو بمؤتمر دولي، ويجب أن تكون النهاية لصالح أوكرانيا والقانون الدولي لأن أمن اوروبا ومصيره برمته في الميزان،
لكن ثمة مسافات زمنية ومواجهات في هذه الحرب لابد أن تكتمل، ولا خيارات أمام أوروبا سوى الانتصار لكن كيف ووفق أية آليات ؟
شيئاً فشيئاً ستتورّط أوروبا لكن على مراحل وستسلّم كييف مقاتلات حربية ودبابات متطوّرة كما تطلب الأخيرة، إنما الإخراج جارٍ لأفضل السيناريوهات والأقل ضرراً بأمن الدول الأوروبية الجماعية وسلامتها.
كل الاحتمالات واردة ومعها كل مخاطر الانزلاقات العسكرية والاستراتيجية والجيو سياسية والعالم على كف عفريت … وقد تكون "أوربة" ( نسبة الى أوروبا ) الصراع في أوكرانيا هو التمهيد الذي لا بدّ منه لسلام بعد حرب مدمّرة.
