لا شك في أن الزلزال الذي ضرب شمال سوريا ومدن جنوب تركيا مؤخراً شكّل فاجعة القرن من حيث حجم الدمار والقتلى والجرحى والمنكوبين والمدن التي زال بعضها عن الخريطة، فكل تضامننا مع الشعبَين التركي والسوري المنكوبَين في مناطق الزلزال، ومع إيصال جهود وإمكانات الإغاثة كافة بأسرع وقت لإنقاذ أكبر قدر من الأرواح وتقديم المعونات العاجلة.
من الناحية السياسية، لم يبقَ الزلزال يتيم المفاعيل مقتصراً فقط على الشق الإنساني والإنقاذي بل تعداه الى الشق السياسي حيث أظهر هذا الحدث سلسلة من الفضائح والحقائق نقف عند أبرزها:
أولاً : وضعَ الزلزال حكم الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في توقيت حساس جداً عشية الانتخابات الرئاسية التركية وفي ظل استطلاعات رأي سلبية لا تصبّ في مصلحته، فأقل ما يمكن قوله إن الزلزال جاء ليضعضع مسيرة الرئيس التركي في لحظة أحوج ما يكون فيها الى كسب الرأي العام التركي الى جانبه في معركته الانتخابية، خاصةً وأن الزلزال في تداعياته الميدانية كشفَ عن تقصير كبير للدولة في الاهتمام بمناطق شاسعة من الدولة التركية، وفي إيصال التنمية والتطور اليها، فبالأمس صرّح وزير العدل التركي بأنه سيتم إجراء تحقيق في كل حالات الإهمال التي أدت الى انهيار مبانٍ في الزلزال … بما يؤشر الى ارتفاع نقمة شعبية في الأراضي المنكوبة ما دفع بوزير مسؤول في الحكومة التركية الى الخروج بتصريح مماثل.
كذلك إقرار الرئيس التركي نفسه بالأمس بتعثّر جهود الإغاثة التي لم تمضِ بالسرعة المأمولة من دون تحديد الأسباب والمسبّبات، معلناً عن ارتفاع وفيات الزلزال الى 19388 والمصابين الى 77711، من هنا فإن آثار الزلزال ستتخطى بكثير الواقع الميداني ولن تخلو تداعياته على الرئيس التركي والمشهد السياسي التركي من الارتدادات السياسية.
ثانياً : الاستغلال السياسي الإيراني للزلزال، إذ وفي مقابل مساعدات الإغاثة النوعية التي تقدّمها مجمل الدول للشعبين السوري والتركي المنكوبَين، اذا بالجمهورية الإسلامية في إيران تشغّل بضع جرافات في حلب مع صور قاسم سليماني لرفع الأنقاض في بعض أحياء المدينة حلب، فيما قائد فيلق القدس إسماعيل قآني يسارع الى زيارة مدينة حلب حتى قبل أن يقوم بزيارتها أي مسؤول سوري أو غير سوري وذلك للظهور بمظهر المهتم والمتضامن مع السوريين، ولإرسال رسائل للغرب ودول المنطقة مفادها أن سوريا تبقى رغم كل المأساة منطقة نفوذ إيرانية بامتياز.
والملاحظ أن الجرافات التي تستخدمها إيران في رفع الأنقاض في حلب رفعت العلم الإيراني و صور سليماني بدل المرشد الأعلى علي الخامنئي رأس الدولة، كما تجري الأمور عادة عندما ترسل دولة ما مساعدات أو تقديمات لدول أخرى، الأمر الذي يثبت حقيقة نوايا الإيرانيين وفيلق القدس وقائده من تلك " الهمروجة " الإغاثية الإيرانية.
ثالثاً : أثبت الزلزال بتداعياته سقوط مقولة محاصرة سوريا أو تعرّضها لحصار، إذ دخلت بالأمس أول قافلة أممية لمنكوبي الزلزال في سوريا عبر الحدود التركية مؤلفة من ست شاحنات حملت مساعدات لمنكوبي زلزال سوريا،
وبالتالي فإن العقوبات على سوريا لم تمنع وصول المساعدات الإنسانية والإغاثية الى المنكوبين، والحصار المدّعى به من بعض المضللين أثبت عدم وقوفه حجر عثرة أمام تدفّق المساعدات الإنسانية والإغاثية، من هنا فإن التلطّي وراء العقوبات والحصار من قبل المسؤولين السوريين وحلفائهم في السياسة الإيرانية و اللبنانية والإعلام الممانع والموالي لإيران ولمحور طهران دمشق قد سقط، ومعه سقطت منظومة أعذار وادعاءات واتهامات سيقت ضد الأميركيين وحلفائهم في المنطقة.
وفي هذا السياق، يٌلاحظ أن حكومة دمشق قرّرت السماح بإرسال مساعدات لمدن خارج نطاق سيطرتها بعد مضي 4 أيام على الزلزال، إذ ان الإعلام السوري أعلن بالأمس موافقة حكومة دمشق على إرسال مساعدات خارج مناطق سيطرتها، أي أن نظام دمشق انتظر 4 أيام على وقوع الزلزال وأربعة أيام على انقضاء أي أمل بإنقاذ ناجين من تحت الأنقاض في مدن خارجة عن سيطرتها كي تقرّر الموافقة على إرسال تلك المساعدات، وفي هذا موقف مشين لا يرقى الى مستوى الحس الأخلاقي والإنساني بالمسؤولية من قبل مَن اعتاد على قتل شعبه وذبحه من دون رحمةٍ وبدم بارد.
بالأمس أعلن الاتحاد الأوروبي بوضوح أن العقوبات الأوروبية ضد النظام السوري لا تمنع إيصال المساعدات الإنسانية الى سوريا، بما يشير الى تأكيد إضافي من الغرب على عدم ربط المساعدات بالعقوبات، وبالتالي عدم منع المساعدات عن سوريا بحجة العقوبات.
رابعاً : سعي حكومة نظام الأسد الى استغلال مأساة الشعب السوري المنكوب من الزلزال لإجبار حكومات إقليمية وعالمية كثيرة على التعاون معها مباشرة، وبالتالي خرق قانون قيصر بحجة الضرورات الإنسانية والإغاثية و بحجة سورية أكبر هي ضمان عدم وصول المساعدات الإنسانية والإغاثية الى الإرهابيين بحسب توصيف دمشق،
وقد أكد وزير خارجية نظام الأسد فيصل المقداد استعداد حكومته إيصال المساعدات الى المناطق التي لا تسيطر عليها ألوية نظام دمشق، ما يعني رسالة مباشرة وبحجة المساعدات والوضع الإنساني الكارثي الى الدول المغيثة للتعاون مباشرةً مع نظام دمشق أي التحايل على قانون قيصر والعقوبات،
فبشار الأسد يريد كعادته الاستثمار في الدماء السورية لحمل العالم على التعامل معه والاعتراف به وبنظامه الفاشي والفاشل.
خامساً : الموقف التركي السلبي والذي يزيد في مأساة الشعب السوري المنكوب شمال غرب سوريا حيث المعادلة معقّدة بالنسبة لأنقرة، إذ ثمة مناطق منكوبة من الزلزال ليست تحت سيطرتها بل تحت سيطرة ألد أعداء الاتراك أي الأكراد، ما دفع بالأتراك الى التخلّي عن مد يد المساعدة لتلك المناطق كونها لا تستطيع المساعدة وهي التي تعاني من كارثة بشرية وإنسانية مماثلة ناتجة عن الزلزال نفسه، والأولوية بالنسبة لحكومة الرئيس اردوغان إنقاذ وإغاثة المناطق التركية المتضرّرة وعدم مساعدة اللاجئين السوريين الذين يشكل موضوعهم مادة سجال دسمة في المعارك الانتخابية في الداخل التركي، وفي نفس الوقت عدم ترك الأكراد يتخلون للإغاثة لمنعهم من اكتساب شرعية دولية إن هم تعاطوا مع الدول المساعدة والبعثات الإغاثية مباشرة.
بالأمس ذكرت واشنطن بوست نقلاً عن مسؤولين أميركيين أن الجيش الأميركي بدأ نشر قوات للمساعدة في أعمال الإغاثة في تركيا وليس في سوريا، تأكيداً على الفيتو التركي من مغبة التعاون مع الأكراد ودعم الأميركيين لجهودهم بشكل أو بآخر، وبالتالي تبقى حقيقة واحدة تفرض نفسها بنفسها في سوريا : الشعب السوري الواقع في تقاطع مصالح متنافرة بين النظام في دمشق والصراع التركي - الكردي و اللامبالاة الأميركية منذ إدارة الرئيس باراك أوباما الى يومنا هذا الى جانب عجز الدول الغربية، هو الضحية الوحيدة والمباشرة والأساسية لغياب الإغاثة الفاعلة، وكل تلك الأطراف تتحمل كامل مسؤوليتها التاريخية والسياسية والإنسانية من استمرار المعاناة وعدم إنقاذ المنكوبين في مناطق الزلزال.
زلزال شرق المتوسط جرّ وسيجرّ معه في المستقبل القريب معادلات جديدة على دماء الشعوب المنكوبة بحكامها أولاً وبمواقعها الجيو سياسية الحساسة ثانياً وبتقاطع المصالح الإقليمية والدولية الجامدة ثالثاً.