غداة زيارة الرئيس الصيني تشي
جينيبنغ المملكة العربية السعودية مؤخراً و المشاركة في القمم التي تخلّلتها، واﻻتفاقيات التي وقّعت بين الجانبين، ساد اعتقاد بأن من شــأن التقارب السعودي- الخليجي- الصيني أن يُبعد الصين عن إيران، إﻻ أن الأيام والأسابيع والأشهر التي تلت هذا الحدث أثبتت صعوبة إحداث الشرخ بين الصين وإيران لأكثر من سبب، وقد برزت أهم مؤشرات هذه الصعوبة حين توجّه مبعوث رئاسي صيني الى طهران بعد مغادرة الزعيم الصيني الأراضي السعودية لطمـأنة الإيرانيين بأن ما وردَ في البيان الصيني- السعودي- الخليجي حول مسـالة الجزر الإماراتية المتنازع عليها لم يكن إﻻ من باب التشجيع على التفاوض.
يبدو أن الصين تبقى أسيرة اتفاقياتها الاستراتيجية مع الجمهورية الإسلامية في إيران وبخاصة اﻻتفاق الاستراتيجي السري الموقّع بين البلدين مدة ٢٥ سنة، والذي لم تُكشف مضامينه حتى الساعة،
وبعض التسريبات حول هذه اﻻتفاقية تكلمت عن نشر الصين قوات حماية بعض المواقع الإيرانية الحساسة.
طبعاً يجب أن ﻻ يغيب عن بالنا أن خطوة المملكة العربية السعودية بالانفتاح على الصين لم تكن فقط بسبب إيران بل وأيضاً بسبب الولايات المتحدة الأميركية بحيث أرادت المملكة، ومعها الدول الخليجية، الضغط على واشنطن لتصحيح سياساتها المنحازة الى جانب إيران في المنطقة، وقد تكلّل الضغط السعودي على واشنطن بنجاح مهم مع زيارة الوفد الأميركي الأممي الديبلوماسي العسكري الأخير الى الرياض، والبيان المهم الذي أسفرت عنه المباحثات والتي أمكن وصفها بالبيان الديبلوماسي (رقم ١) في مواجهة إيران، وترجمة الشراكة التحالفية العسكرية والاستراتيجية الأميركية- الخليجية في مواجهة إيران.
تزامن زيارة الوفد الأميركي للرياض مع دعوة الزعيم الصيني نظيره الإيراني لزيارة الصين لعقد قمة ثنائية وصفت بالمهمة جداً أثبت الفرز الجيو سياسي بين التحالفات الاستراتيجية بين محوري الخليج- أميركا والصين- روسيا- إيران، وبالتالي فإن الخطوة الصينية باستقبال الرئيس الإيراني يجب عدم فصلها عن أجواء التوتر الصيني- الأميركي غداة إسقاط المنطاد الصيني فوق الأراضي الأميركية واتهام واشنطن بيجين بالتجسس عليها وتصاعد حدة التوتر بين البلدين منذ أسبوعين وحتى الساعة، بحيث أن واشنطن وتحت ستار هذا التوتر عادت لتقوي عسكرياً تايوان واليابان وحلفاءها الآسيويين لممارسة الضغط السياسي والعسكري على الصين، كما أن الخطوة الصينية تذكير بسياسة بيجين القائمة على الفصل في علاقاتها مع الآخرين بين ما هو استراتيجي سياسي عسكري تخالفي وما هو شراكات تجارية واستثمارية.
من هنا، فإن الرئيس الصيني في الشق الجيو سياسي أمام معادلة مواجهة جديدة للأميركيين مفادها التقرّب من الدول المعادية لواشنطن وفي طليعتها إيران، في سياق تبادل رسائل التصعيد بين الجبارين المتناحرين.
موقع بلومبرغ الإخباري كان قد ذكر منذ أيام قليلة أن دول مجموعة السبعة( اليابان وأميركا وكندا وبريطانيا والمانيا وفرنسا وإيطاليا ) قرّرت فرض عقوبات على الصين وإيران وكوريا الشمالية لمؤازرتهم روسيا في حربها على أوكرانيا، الأمر الذي يرسم ملامح تشكيل محورَين عالميين متشابهين، ما قد يزيد من حدّة التشنجات والتوترات الدولية ويخلط كل الأوراق الإقليمية والدولية في آن.
وول ستريت جورنال كانت قد أكدت خبر مساعدة الصين لروسيا بتزويدها ب"المايكروشيبس" التي تساعد على تشغيل الصواريخ الروسية، الأمر الذي لم تكن الصين قد أفصحت عنه، فالصين قامت بشحن معدات الملاحة والتشويش وأجزاء طائرات مقاتلة وقطع غيار مقاتلات سو ٣٥ الى روسيا بقيمة مليار ومئتي مليون دولار.
جريدة الغارديان البريطانية بدورها كشفت عن قيام إيران بتزويد روسيا بمسيّرات عن طريق الرحلات المدنية، كما أن المصنع الذي تنوي تشييده في روسيا سيزود موسكو بستة الآف مسيّرة، وقد أرسلت طهران وفداً الى روسيا للإشراف على بناء المصنع وتزويده بالمعدّات اللازمة لتشغيله، كل هذا في وقت طوّرت طهران مسيّراتها لجعلها قادرة على حمل رؤوس مدمّرة للتسبّب بخسائر أكبر ضد الأهداف المدنية،
فيما كوريا الشمالية زوّدت مجموعة فاغنر والجيش الروسي بقذائف مدفعية وعتاد عسكري ثقيل.
كل هذه المشهدية الصينية- الإيرانية- الروسية- الكورية الشمالية تؤثر على أمن الخليج والمملكة العربية السعودية بالتحديد لأن في مقابل ما تقدّمه إيران للصين وروسيا ستستفيد هي من سلسلة مكاسب كتطوير السلاح الجوي الإيراني وترسانتها العسكرية، علماً أن الصين بحاجة لشراء ١٥ ألف مسيّرة من طهران وموسكو ستزود طهران بمقاتلات حربية كانت معدّة لبيعها لمصر.
القمة الإيرانية- الصينية الأخيرة كانت محورية وعلى جانب من الخطورة رغم ما قيل بأنها تناولت قضايا سياسية واقتصادية، الا أن الشق العسكري بالتاكيد لم يغب عن المباحثات خاصة في موضوع طلب بيجين المسيّرات الإيرانية، ورغم اتصالات بين الرياض وبيجين للطمأنة فزيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي للصين التي تمت بين ١٤ و ١٦ من الشهر الجاري شكلت "نقزة " خليجية من مضي الصين قدماً في تعزيز علاقات الشراكة مع الرياض والخليج، في ما يبدو أنه استكمال صيني لسياسة ثابتة مع إيران ستؤثر في مكان ما سلباً على العلاقات السعودية- الخليجية- الصينية، الأمر الذي سيشجع الأميركيين على التقرّب مجدداً من الرياض لقطف ثمار التباعد الصيني- السعودي، وقد جاءت زيارة الوفد الأميركي لتأكيد الشراكة الاستراتيجية والأمنية والاستخباراتية مع الرياض ودول الخليج، واللافت في هذا الوفد أنه ضم في عضويته المبعوث الأميركي في الملف الإيراني روبيرت مالي، وهذا الوفد لطالما زار المملكة سنوياً باستثناء السنة الماضية إثر التوتر الذي ساد العلاقات الأميركية- السعودية على خلفية قرارات أوبيك بلاس بخفض الإنتاج.
مهمة هذا الوفد كانت إطلاع الدول الخليجية على مقاربة واشنطن للملف الإيراني النووي وللمفاوضات ولموقف واشنطن منه، لاسيما وأن اتصالات سرية تجري بين الأميركيين والإيرانيين في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني، كشف عنها كبار المفاوضين الإيرانيين في إطلالة لهم على شاشة تلفزيون المنار مؤخراً ولم تنفه واشنطن.
هذا الكلام يكشف ضعف الإدارة الأميركية الحالية التي تكلم عنها الرئيس السابق دونالد ترامب، إذ كيف يعقل لواشنطن أن تستمر في إيلاء اﻻهتمام ﻻتفاق نووي مفترض مع الإيرانيين في وقت "تعربد" إيران مع الصين وروسيا ضد مصالح واشنطن والغرب الحليف لواشنطن، ورغم كل الاستفزازات التي تقوم بها طهران في صناعة وبيع المسيّرات وسواها من أعمال خطيرة، وفي ظل ما يُشاع ويتوقّع من هجومات إسرائيلية على البرنامج النووي الإيراني، ومع ذلك ﻻ تزال إدارة الديمقراطيين على موقفها من إبرام اتفاق نووي مع طهران في أي وقت ممكن، ورغم التصعيد الإيراني الكبير على واشنطن والغرب، وقد وصلت الأخيرة أو تكاد الى "العتبة النووية" .
وبالعودة الى العلاقات الصينية- السعودية، وفي خضم هذا الفرز الإقليمي الدولي بين محورين عالميين متناحرين يبقى أن تقارب الصين من إيران قد يكون في مكان ما عنصراً مساعداً على تحقيق حوار سعودي- إيراني جدّي، وقد أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني عن تنظيم لقاء مرتقب في بغداد بين البلدين على مستوى رئيسي اﻻستخبارات السعودي- والإيراني ستكون برعاية صينية- عراقية.
المهم من الناحية الجيو سياسية أن نشير الى أن مصالح كل من أميركا والصين تبقى أولوية لديهما، وأنه مهما كان أحدهما متحمّس للعلاقات مع الخليج والعرب، اﻻ أن ما دون الذهاب الكلي باتجاه تلك العلاقات اعتبارات مصلحية تجعل كل من واشنطن وبيجين في مكان ما متوافقين على عدم التفريط بالورقة الإيرانية في مواجهة الآخر،
من هنا، فإن الحسابات الجيو سياسية ﻻ تغفل الورقة الأخيرة التي يدفع نحوها العرب و الخليجيون إخراجهم من دوامة مطبات التراجع الصيني- الأميركي تجاه طهران أﻻ وهي الورقة الإسرائيلية أي التطبيع لاسيما وأن المصلحة العربية- الخليجية- الإسرائيلية تبدو متقاطعة أكثر من أي يوم مضى في ضرب إيران وإسرائيل الوحيدة القادرة على تنفيذ عمليات عسكرية واستخبارية ضد إيران لضربها في برنامجها النووي، وهي المتحمّسة لذلك في مقابل ثمن سياسي كبير هو التطبيع وبخاصة مع الرياض.
إيران اذاً في أساس المعادلة الجيو سياسية وخياراتها وتداعياتها في المنطقة والخليج خاصة بانتظار ما سيسفر عنه الحراك السياسي الديبلوماسي العسكري الأممي في المنطقة ونتائج مشاورات ميونيخ الحالية بين القوى العظمى، في وقت تستكمل إسرائيل مخططها العسكري بضرب المواقع الإيرانية في سوريا وآخرها غارة ليل السبت الأحد على دمشق إيذاناً بعودة الغارات، وبالتالي ترجمة الخطط العسكرية لمحاصرة الوجود الإيراني في المنطقة.