عام على حرب عالمية غير معلنة !

000_9Z42EK

في الرابع والعشرين من شهر شباط ٢٠٢٢، دخل العالم مرحلة جديدة مع انطلاق العملية الروسية الخاصة ضد أوكرانيا، ومنذ ذلك الحين والعالم ينزلق رويداً رويداً نحو حرب عالمية تدور حالياً رحاها على مختلف مساحات الصدام العالمي، بدءاً من أوكرانيا وصولاً الى تايوان ومروراً بشمال أفريقيا والشرق الأوسط.

هو عام كل الإنقلابات الجيو إستراتيجية والجيو سياسية حيث نجد العالم يعود الى أدبيات وسلوكيات الحرب الباردة ولكن بسخونة أكبر تُنذر بما ﻻ تحمد عقباه.

المشكلة الأساسية بين روسيا والغرب، وعلى رأسه الوﻻيات المتحدة الأميركية، تعود جذورها الى سوء التفاهم الكبير ﻻ بل الخلاف الكبير على مفهوم سيادة الدول التي كانت يوماً ما جزءاً من اﻻتحاد السوفياتي، ذاك الاتحاد الذي لم يبتلع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سقوطه بحيث اعتبره أكبر كارثة جيو سياسية لحقت بالعالم في القرن العشرين، وتلك الدول التي ومع سقوط حائط برلين وسقوط اﻻتحاد السوفياتي اتجهت نحو الاستقلال والحرية والتحرّر من نير السوفيات والشيوعية لتدخل أسواق العالم الغربي وتنفتح على مبادىء وقيم العالم الحر .

يعبر العالم العام الأول على الحرب في أوكرانيا والأسئلة التقييمية والتحليلية كثيرة تجد جذورها منذ العام 2014 واتفاقيات " منسك " التي كان من المفترض أن تجد الحلول لمنع وقوع الأسوأ في ظل خديعة مزدوجة روسية- أميركية : روسية لكون موسكو باحتلالها القرم وضمه تحدّت الإرادة الدولية والقانونية والغريبة كون الغرب كذبَ على الروس في موضوع تعهدهم بعدم اقتراب الناتو من المجال الجيو سياسي الروسي.

موسكو مسّت بأمن دولة واستخدمت أراضي دولة ثالثة لاستفزاز الناتو والغرب، وبدل منع تمدّد الناتو شرقاً اذا بالناتو يصبح على أبواب روسيا بقده وقديده، والغرب عاكس هواجس موسكو وأهملها فوقع المحظور.

أهم ما حققته هذه الحرب ليس فقط على أرض أوكرانيا بل وفي مناطق العالم الساخنة :

أولاً : إجتياح روسيا لأوكرانيا أقحم القانون والمواثيق الدولية والشرائع التي ترعى العلاقات بين الدول في أزمة وجودية، إذ ان ما يحصل في أوكرانيا وارتدادات ما يحصل على مناطق وجبهات أخرى أظهر انهياراً لكافة مفاهيم القانون الدولي، من سيادة الدول الى مبدأ حل الأزمات والخلافات سلمياً بين الدول وصولاً الى الإطاحة بحق الشعوب في تقرير مصيرها الذي يتلاعب به كل طرف لتبرير موقعه الهجومي أو الدفاعي.
وبانهيار القانون الدولي، إنهارت مؤسساته وفي طليعتها منظمة الأمم المتحدة التي وقفت عاجزة عن التدخّل لحل أخطر أزمة دولية منذ العام ١٩٤٥، وقد تحوّل مجلس الأمن الى "حلبة مصارعة" بين القوى العظمى المتحاربة إما مباشرةً أو بالواسطة،
وبالتالي ومع انهيار النظام القانوني الدولي إنهارت نقاط الإرتكاز الديبلوماسية، وها أن الغرب يقاطع روسيا، والأخيرة تشيد مجدّداً حائطاً حديدياً يفصل بينه وبين الغرب أين منه حائط برلين الأسطوري، وبات العالم محكوماً بالتحدّيات والتهديدات المتبادلة وﻻ يُعلم أين يمكن أن نتجه في ظل الفوضى التي نحن فيها.

ثانياً : الحرب في أوكرانيا وضعت مجدداً على بساط البحث مبدأ آخر على جانب كبير من الأهمية هو مبدأ وحدة أراضي الدول ذات السيادة، فوجهة النظر الروسية تجاه أوكرانيا المتمثّلة بالإعتقاد بأن روسيا في حربها إنما تسترد أراضٍ روسية سُلخت منها بفعل تحرّر دول الكتلة الشيوعية السوفياتية السابقة، تقابلها وجهة نظر غربية تعتبر أن روسيا غزت دولة سيدة ومستقلة هي أوكرانيا، وأن زمان العودة الى الإمبراطورية السوفياتية قد ولّى ولم يعد بمقدور الرئيس بوتين أو غيره إعادة عقارب الساعة الى الوراء.
ونتيجة هذا التناقض في المفهوم الواحد، نجد كلاً من روسيا وأوكرانيا يبرّران حربهما وتصدّيهما بالحق في دفاع كلٍ منهما عن أرضها وسيادتها على هذه الأرض، فيما موسكو تمتلك ورقة جزيرة القرم التي اكتسبتها في غفلة عن السياسة الدولية المتخاذلة عام ٢٠١٤، مما شجّع الرئيس بوتين على المضي قدماً في طلب المزيد، وهو الذي اعتبر اتفاقات مينسك خدعة أوقعه فيها الغرب فوصل الى نتيجة أعلنها في خطابه الأخير بتعليق معاهدة "نيو ستارت" حول انتشار السلاح النووي، انطلاقاً من أن الأميركيين خدعوه مرة جديدة بمساعدتهم الأوكرانيين على الدفاع عن أرضهم .

ثالثاً : مبرّرات الرئيس بوتين المعلنة لغزو أوكرانيا أعطته نتائج عكسية على أرض المعارك والمواقع، فعادت الحياة والحيوية والفعالية للناتو، واشتدت أواصر الدول الأوروبية الى حدٍ كبير في توحّدها وراء أوكرانيا، رغم بعض الإختلافات التي لم تصل الى الآن الى حد الخلافات، وباتت أميركا في قلب أوكرانيا بالتسليح والمال والدعم، فضلاً عن التسليح الأوروبي والمال والمساعدات والدعم السياسي والإعلامي لأوكرانيا.

أراد الرئيس بوتين إبعاد صواريخ الناتو عن روسيا فإذا بالناتو كله في أوكرانيا، كما أراد عدم انضمام أوكرانيا الى حلف الناتو فإذا بالحلف وراء كييف وفي أوكرانيا بسلاحه وتكنولوجيا الحرب والسلاح والعتاد والدبابات، وربما غداً بالطيران الحربي المتطور.

أراد الرئيس بوتين عدم انضمام أوكرانيا الى اﻻتحاد الأوروبي فإذا بأوروبا تحتضن أوكرانيا وتتضامن معها وتصطف الى جانبها وتقدّم لها طلب اﻻنضمام على طبق من فضة …

وبعدما كان الرئيس بوتين يريد بعمليته الخاصة الوصول خلال بضعة أسابيع الى كييف وإسقاط حكومة الرئيس زيلينسكي وتنصيب حكومة موالية لروسيا اذا به يغرق في المستنقع الأوكراني في عامه الأول، وحكومة كييف والرئيس زيلينسكي على رأسها لا تزال تدير البلاد وحرب المقاومة والتحرير من الإحتلال الروسي، مدعومةً من كل الغرب والناتو والوﻻيات المتحدة الأميركية.
من هنا، ومن الناحية اﻻستراتيجية، خسر الرئيس بوتين عمليته الخاصة رغم كل ما يُقال من أن العملية حققت أهدافها … وأية أهداف سوى تدمير أوكرانيا وتشريد شعبها وتدمير بنيتها التحتية …
رابعاً : الحرب في أوكرانيا خلطت كل أوراق المصالح الإقليمية والدولية و"خربطت" كل المخططات والتحالفات والشراكات، وساهمت مساهمة مباشرة في الركود الإقتصادي العالمي وأزمة الطاقة والغذاء، وتلاحق الأزمات الاقتصادية في كل بلد في العالم من كبيرها الى صغيرها، كما وفي إعادة توزيع خريطة العلاقات بين القوى العظمى والدول ذات التأثير، ومنها على سبيل المثال المعادلة الشرق أوسطية حيث تداعيات الحرب في أوكرانيا تلقي بظلالها على أسواق النفط والغاز، وضغط الحاجات يؤدي الى ارتسام تحالفات آنية بين دول لم تكن لتلتقي في الأيام العادية وبين دول كانت حليفة وانفصلت أو تباعدت.

مثل أمواج التسونامي، ضربَ الزلزال الأوكراني الرئيسي وهزاته الإرتدادية الحسابات الجيو سياسية والجيو استراتيجية كما بين الصين والوﻻيات المتحدة وبين أوروبا وإيران، كي ﻻ نقول بين أميركا وإيران وبين إسرائيل وإيران وإسرائيل وروسيا، وبين أوروبا وروسيا وأوروبا وشمال أفريقيا، فيما تأججت الصراعات كما على محور تايوان- الصين ومحور الكوريتين … وفي الشرق الأوسط بات التحالف بين العرب وإسرائيل لضرب إيران أقرب الى الواقع والتطبيق من التحالف بين العرب وأميركا أو العرب وأوروبا …

خامساً : حالة الإستقطاب العالمي والإقليمي التي نعيشها نتيجة الحرب في أوكرانيا انسحبت على مجمل الملفات الإقليمية والدولية، ومعها زادت التوترات في وسط آسيا وزاد معها القلق والشعور بعدم اﻻستقرار لدى دول أخرى من دول الطوق السوفياتي القديم، فيما ﻻ أفق منظور لحلول ديبلوماسية أو سياسية تعيد ضبط التطورات ووقع تسارع الأحداث، في الوقت الذي يتّسع الفرز بين المحاور، وترتسم مشهديات تحالفية بين غرب وشرق على طول خط "زلازل تقاطع" وتنافر المصالح من شمال السويد والنروج وصولاً الى تايوان مرروراً بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

هذا الشرخ العالمي بلغَ من الشدة ما يُستبعد معه أن تعود العلاقات الدولية الى سابق عهدها يوماً وبخاصة في الأمد القريب والمتوسط أقله، ذاك أن الصراعات تُضعِف الإمكانات مع الوقت وتُنهك الجميع، كما وأن التحالفات تختلف في ما بعد عما قبل، والنظام العالمي المتعثّر راهناً قد يؤدي الى نظام جديد مجهول الهوية والمواصفات على أنقاض عامين من ويلات جائحة كورونا حيث لم يكد العالم يلتقط أنفاسه حتى جاءته الحرب على أبواب أوروبا المنهكة من تبعات وتداعيات الجائحة

سادساً : بعد عام على الحرب في أوكرانيا بدأ العالم يدخل حروبه الخاصة على مختلف محاور القتال، والإقتتال والتصعيد العسكري والسياسي سيد المواقف في هذه المرحلة، وقد غاب حكماء العالم وناموا عن نواطيرهم فلا صوت اليوم يعلو فوق صوت المكاسرة في ظل معادلة شديدة التعقيد تمنع على أي طرف الخسارة واﻻنهزام خلافاً لقواعد الطبيعة واللعب من ضرورة وجود منتصر وخاسر أو مهزوم …
وإن كانت نهايات الحروب التفاوض والحوار على طاولات المعاهدات والترسيم والتقسيم وتوزيع مناطق النفوذ والسيطرة إلا أنه ﻻ بد أن تلد الحلول على نيران حامية، ولذا فإن المتوقّع خطير وخطير جداً، عسانا كبشر في لحظة شدة الأهواء أن ﻻ نقع في المحظور ولا يبدو أننا سنصل اليه لكن قد نمرّ بقربه …

حرب بلا حدود زمنية تُشعل المسرح الدولي يوماً بعد يوم، فهل تُحدث الصين الفرق بأن تختار المساهمة في إيقاف الحرب بدل إزكائها؟

عام على الحرب في أوكرانيا كان كافياً لندرك أننا جميعاً أصبحنا في عصر آخر وزمن آخر ونظام دولي آخر تدّب فيه الفوضى راهناً على مساحة الأزمات والأوطان … والمتوقّع شدة أكبر عساها تنفرج بعد ذلك … لكن ثمة جروحات لن تندمل بسهولة …

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: