ليست المرة الأولى، ومنذ اندلاع الثورة في سوريا ضد نظامه في العام 2011، التي يزور فيها رئيس النظام السوري بشار الأسد روسيا للقاء راعيه الأساسي الرئيس فلاديمير بوتين وتلقّي تعليماته وإرشادات موسكو، لكن ما يميّز الزيارة الأخيرة التي قام بها الثلاثاء الفائت أنها ارتدت طابع "زيارة دولة رسمية" يبدو أن الرئيس بوتين أرادها في زمن شحّ الحلفاء لا بل الأتباع لموسكو في المنطقة، وقد تجلّت معالم هذه الزيارة من خلال الإعلان المسبق عنها والالتزام ببرنامج استقبال يليق برؤساء الدول، في تناقض واضح مع العادات السابقة التي كان فيها الأسد يهرول أمام سيده الروسي لمعانقته بحرارة شاكراً له فضله الأول في بقائه رئيساً على هيكل عظمي لسوريا بفعل وحشية نظامه وإجرامه في حق شعبه.
اللافت كان تزامن هذه الزيارة مع الذكرى الـ12 للثورة السورية، ومع محاولات دول إقليمية وعربية التطبيع مع الأسد انطلاقاً من هدف محاولة احتضانه لإبعاده عن التأثير الإيراني.
صحيفة "الوطن" التابعة للنظام السوري كانت قد ذكرت قبل اللقاء أن الأسد سيعقد مع بوتين "مباحثات تتناول ملفات تطوير وتعزيز العلاقات الثنائية والتعاون الاقتصادي بين البلدين، وكذلك تطورات المنطقة والإقليم وملف الاجتماعات المعنية في بناء الحوار بين دمشق وأنقرة، بالاضافة الى بحث التعاون في مجالات السياسة والتجارة والإغاثة وآفاق التسوية الشاملة للوضع في سورية ومحيطها".
زيارة الأسد لموسكو تخفي في الحقيقة ثلاثة حقائق:
الحقيقة الأولى أنها تأتي في سياق حاجة موسكو في هذه المرحلة من صراعها المحتدم مع الأميركيين والغرب، انطلاقاً من حرب أوكرانيا، الى الإمساك بشدة أكبر بأوراقها الإقليمية بعدما تبين أن منطقة الشرق الأوسط مقبلة على مرحلة جديدة تُخلط فيها الأوراق وتُعاد صياغة التحالفات، لا سيما بعد الاتفاق السعودي- الإيراني برعاية الصين على استئناف العلاقات الديبلوماسية، وما من المفترض أن يعكسه هذا الاتفاق تعاوناً في ملفات المنطقة ولاسيما في سوريا حيث لا تريد موسكو خسارة الحليف السوري تحت تأثير تنازلات إيرانية للعرب عن الورقة السورية على حساب مصالح روسيا.
الحقيقة الثانية هي أن موسكو تريد التمسك أكثر بورقة القرار في سوريا في مواجهة طموحات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي يحاول التواصل مع الأسد لحل مشكلة اللآجئين السوريين والمسألة الكردية، بحيث لا يقوم الأسد بأي حراك مع الأتراك من خلال مراعاة المصالح الروسية ومن ضمن البوصلة الروسية.
الحقيقة الثالثة أن الرئيس بوتين يعتبر نفسه في المنطقة في صراع مفتوح مع الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين وعلى رأسهم إسرائيل التي أعلن رئيس وزرائها بنيامين نتانياهو بالأمس أنه يخشى من صدام جوي مع الروس في سوريا، وبالتالي يسعى سيد الكرملين الى إيصال رسالة واضحة للمحور الأميركي- الغربي في المنطقة بأن سوريا ولا سيما نظام الأسد لا يزال في حمايته، وأنه يعتبر الأسد رئيس دولة حليفة لروسيا في المنطقة وبحماية موسكو، جاعلاً من سوريا خط دفاع أساسي في وجه العرب والأميركيين، ومن هنا كانت ردة فعل الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين والألمان بالأمس باعتبار نظام الأسد إرهابي ورفض أي تطبيع معه.
كان من المفترض أن تتزامن الزيارة مع بدء اجتماعات رباعية على مستوى نواب وزراء خارجية تركيا، إيران، روسيا، والنظام السوري يومي الأربعاء والخميس بهدف تهيئة الأجواء السياسية أمام اجتماعات على مستوى أعلى لتطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة بدفع كبير من موسكو، ولكن هذه الاجتماعات لم تُعقد في المواعيد التي حدّدتها أنقرة، في إشارة الى التجاذب الروسي- التركي حول الملف السوري، وقد أشارت مصادر قريبة من نظام الأسد بأن "الاتصالات والمشاورات ما تزال مستمرة" لعقد هذا الاجتماع، وأن موقف دمشق على حاله لجهة مطالبتها أنقرة بضمانات حول جدولة انسحاب جيشها من الأراضي السورية ووقف الدعم المقدّم للمجموعات التي يعتبرها الأسد وراعيه الروسي إرهابية.
الجانب الروسي لا يزال يتحكم بأهم مفاصل القرار في سوريا منذ العام 2015، فيما للنظام السوري لم يعد أكثر من واجهة سياسية لضمان المصالح الروسية في بلد يشكل خط دفاع أمامي أساسي للوجود الروسي على أبواب حلفاء واشنطن والناتو في المنطقة، فتمدّه بجرعات من الدعم فيما نظام دمشق متهالك ومتهاوٍ.