مع إطباق ثنائي “حزب الله” وحركة “امل”، على مقاعد الطائفة الشيعية في البرلمان في الانتخابات عام 2022 ، لم يعد ممكنا القول ان في هذه الطائفة فسحة تنوّع. فمنذ ذلك الحين تأتي المناسبة تلو المناسبة لتذكر من يجب تذكيره ان الحديث عن خيار شيعي خارج الثنائي هو مضيعة للوقت.
أتت وفاة حبيب صادق الشخصية الجنوبية والوطنية الفذة، وما رافقها من كتابات لتضيء اكثر واقع الطائفة التي ينتمي اليها صادق. وعندما زرته قبل أعوام في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، لم أشعر ان ثقل الأعوام والتجارب قد غيّرت من لهجته التي تعيد سامعها الى زمن التوهج في أعوام تألق النضال على انواعه في ستينيات ونصف سبعينيات القرن الماضي. لكن، كان يلمح من دون أن يصرّح ان الزمن الأول قد تحوّل. ولإن زائره من الاعلام، لم يكتم سروره بنسيبته ديما صادق(التي تلقت حكما قضائيا كرمى عيون جبران باسيل).
لم يطل الوقت، حتى اعتزل صادق المجيء الى مجلسه، والقريب من منزله الذي يقع على بعد مسافة قصيرة في منطقة ثكنة الحلو . لكن المجلس بقيّ ينبض كما أراد مؤسسه . وكانت آخر مناسبة أتيحت لي العام الماضي هي ان أكون حاضرا في هذه الواحة الجنوبية لإحياء الذكرى الأولى لغياب القامة الجنوبية الشامخة العلامة محمد حسن الأمين.
هناك كثيرون هم اجدر بالكتابة عن صادق . وهذا ما يجب ان يتواصل في المستقبل. غير ان هناك قاسما مشتركا يضع جميع من هم عاملون في الشأن العام ويحملون تذكرة هوية تفيد ان مذهب هؤلاء شيعة، في مكان واحد. فهل هم فعلا شيعة، بالمعنى الذي أصبحت عليه أحوال الطائفة هذه الأيام؟
إنهم ليسوا كذلك، وهناك الكثير من الأدلة. فلو ان حبيب صادق الذي ودعناه بالأمس، قرر ان يقول شيئا عن أحوال الجنوب اليوم، لكان خضع فورا لفحص سيقرر ما اذا كان صاحب القول شيعيا أم لا. انه شيعي ، إذا ما قال ان الجنوب بعد العام 2000 هو غير الجنوب ما قبل ذلك التاريخ، وزاد على ذلك قائلا ان تحرير الجنوب عن طريق المقاومة الإسلامية هو الذي صنع جنوبا لم يكن له مثال في التاريخ. وسيتبوأ هذا القائل مرتبة شيعية متقدمة ان قال ان الامام موسى الصدر الذي أسس أفواج المقاومة اللبنانية(أمل) هي التي افتتحت مسار التحرير ولو بعد عقود.
في المقابل، لن يكون صادق شيعيا، إذا ما قال ان الجنوب يخضع اليوم لهيمنة سياسية، لم تصل الى مرتبتها في الأيام من الأيام ومن قرون هيمنة الاقطاع عندما كان سيد الديار ومالك الاطيان. كما سيقوم الفاحصون على الفور بتوصيف القائل بما يستحقه من وصف . ومن بين الاوصاف التي استخدمت سابقا” شيوعي لا شيعي”. ولإن الجماعة الشيوعية التحقت بركب “حزب الله” منذ أعوام ، سيتم تعديل الوصف بآخر” شيوعي مرتد عن الشيوعية”. ومن بين منوعات الاوصاف ” شيعة السفارة” ، او من جماعة NGO,s التي صارت تماثل “عبدة الشيطان” او اكثر.
ما سبق قوله ، هو تبسيط ساذج لتحولات كبرى لما آلت اليه أحوال طائفة زاخرة كهذا اللبنان فكرا وعلما وادبا وفنا ونضالا رائدا . ولا أزال اعتمد على ما أقتنيته من منشورات المجلس الثقافي للبنان الجنوبي التي دافعت الى ابعد الحدود عن معنى العيش المشترك في جبل عامل قبل ان يسمى جنوبا. حتى في احلك القرون الغابرة كان مسيحيو الجبل ومسلموه يعيشون معا ، ما أثار “سخط” الرحالة ابن جبير الذي زار هذه الديار في القرن الثاني عشر، وأخذ على “المتاولة” إختلاطهم ب”نصارى” تلك القرون!
ما يبقى، هو ان المصنفين “شيعة لبنان” بموجب الانتخابات النيابية الأخيرة ،هم ممن لم ير ولم يسمع ابن جبير وسواه بهم . انهم اليوم اقرب الى بحر قزوين من بحر العرب. هم يعشقون اللون الأسود ويأنفون الاخضر . لا تشنّف آذانهم سوى مراسم الحزن ونسوا ان الجنوب كان موئل الزجل والشعر والدبكة التي لا تهدأ.
كي لا يتم حرمان هذا الطيف الكبير من غير المصنفين “شيعة” اليوم ، من المفضل، ان يتم تصنيفهم “جنوبيون”. تحياتي لحبيب صادق الجنوبي.
