في زمن "عجقة" الصفقات الأميركية في المنطقة : صفقة صغرى وأخرى كبرى … ومفاجآت !

إيران-وأمريكا-أعداء-اليوم-حلفاء-الغد-

قبل يومين، إتصل وزير الخارجية الإيراني بنظيره العُماني، والمعلوم أن السلطنة تتوسط دائماً بين إيران والأطراف الإقليمية.
هذه العلاقة الوسيطة مع بعض الدول الخليجية وإيران تأتي في سياقات نجد فيها تفاعلات مع حقيقة وجود نظام الملالي وتأثيراته في المنطقة بدءاً من دول الخليج المنقسم بين مفهومين : مفهوم براغماتي يرمي وراء ظهره الاختلافات الجذرية في العقيدة والإيمان بين الشيعة والسنّة ومفهوم يحاول إبقاء إيران قدر الإمكان بعيدة عن الإيذاء.

المسألة الإيرانية برمّتها تجد جذروها في اللحظة التي قرّر فيها الغرب الإتيان بالخميني ونهج الثورة الإسلامية، وزرعها في المنطقة بهدف زعزعة أمن واستقرار دولها واستنزاف طاقاتها وقدراتها، بحيث يخدم نظام الملالي الصفوي الفارسي الشيعي إسرائيل ومصالح حلفائها في الشرق الأوسط لينتقل الصراع الأقليمي من صراع بين العرب وإسرائيل الى صراع عربي- فارسي- وسنّي -شيعي وإيراني- عربي فيتحوّل الضغط والتركيز عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وعندما لجأت إيران الى ضرب استقرار المملكة العربية السعودية، أرسلت الى الحوثيين في اليمن مسيّرات تبلغ قيمتها في أحسن الأحوال بين مئتين وثلاثمائة دولار لترد عليها الرياض بصواريخ أميركية قيمة كل صاروخ حوالي عشر ملايين دولار، فالسعودية قادرة على دفع قيمة الصاروخ لكن إيران لم يعد بإمكانها دفع قيمة المسيّرة بعدما استنفرت مصانعها وميزانياتها التصنيعية.
من هنا، يمكن فهم اتفاق بكين الذي ظاهره اتفاق سعودي- إيراني برعاية وضمان الصين، بينما هو في الواقع اتفاق صيني- سعودي، فيما إيران ضيف شرف على هذا الاتفاق، حيث أن لدى السعوديين منذ زمن هذا التوجه نحو الصين والشرق كما في حقبة الضغوط على الملك فيصل في موضوع الديمقراطية أيام الرئيس جون كينيدي، وكما في مسألة التدخّل المصري في حرب اليمن، وقد كانت العلاقات السعودية- السوفياتية مقطوعة آنذاك.
حتى الكويت عندما تعرّضت ناقلاتها لهجمات طلبت رفع الأعلام الأميركية على الناقلات، فجوبهت برفض واشنطن لهذا الطلب في أول المطاف لكن سرعان ما عادت ووافقت عندما استعانت الكويت بالسوفيات الذين وافقوا فوراً على الطلب الكويتي، ما أدى الى تراجع واشنطن عن الرفض وباتت الناقلات الكويتية ترفع يومها علمين أميركي وسوفياتي في آن.
هكذا فهم العرب ولا سيما الخليجيين أن الغرب لا يتحرّك إلا بالضغط عليه عبر التوجه الى خصومه، ومن هنا استراتيجية المملكة في اتفاقها مع الصين لأن الغرب يريد دائماً استقراراً مزَعزَعاً في المنطقة يُنتج حروباً موسميةً تُنهب من خلالها أموال المنطقة،
فالمملكة عرفت سرّ هذا التآمر وقبلت بشروط اللعبة على المكشوف مع وصول الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بحيث قلبا المعادلة السابقة وانخرطا في لعبة الضغط بالتعامل مع الشرق الصيني
وعندها فهم الأميركي، خصوصاً أن الرياض لم تعد تُرهق مالياً في كل ما هو مطلوب لشراء الأسلحة لمواجهة إيران، فيما الأخيرة بات نَفَسها قصيراً ولم تعد تقوى على تحمّل عضّ الأصابع.
يُذكر في هذا السياق أنه في يوم من الأيام قال الملك عبدالله بن عبد العزيز للأميركيين بإنه لا يريد مالاً بل ذهباً في التعاملات، فانتقى الذهب عن الكوكب بفعل اشتداد الطلب عليه للتبادلات مع المملكة وتكوّنت احتياطات سرية ضخمة للذهب في الرياض، ثم كان الاستنزاف في كلٍ من حرب اليمن وحرب العراق وإيران.
الملك سلمان وولي عهده يعرفان قواعد اللعبة، ولذا يعملان على تحجيم الاستنزاف لتفعيل الاتفاق الداخلي والشامل استراتيجياً : فوزير الدفاع السعودي يقول إن المملكة هدرت أربعين عاماً وكان بالإمكان الدخول خلال تلك الفترة مجالات التقدّم والتطوير كما في عالم الصناعات الكبرى في كوريا الجنوبية.
بالعودة الى إيران، فإنها تحلّ ضيفاً خبيثاً في الاتفاقات ومنها اتفاق بكين، ويتم التعامل معها على قاعدة الحد من أضرارها أو شرّها، فها هي اليوم نجحت في ابتزاز الأميركي الديمقراطي في صفقة مال مقابل خمسة أسرى أميركيين من أصول إيرانية، والدولة العميقة الأميركية تُرسل الى طهران ٦ مليارات دولار من كوريا الجنوبية توضع في حساب ويتاح لإيران الصرف منه مقابل الإفراج عن الأسرى، بما يساعد الرئيس بايدن في تحقيق إنجاز باهت بدوره لأن الأسرى لم يفرج عنهم الى خارج إيران، ولأن الإفراج عن ستة مليارات دولار يقوي طهران.
الثمن اذاً لا يرتقي الى مستوى التنازل الديمقراطي في موضوع الستة ملايين دولار التي كانت طهران تتسوّلها من الأميركيين، فيما الأسرى الخمسة في طهران نُقلوا من مقار توقيف الى اآخر ولم يُفرج عنهم بعد.
كل هذا الأسلوب في التعاطي والتعامل لا تجده في المقلب الآخر مع الرياض حيث التعامل الأميركي أرقى وأفضل، إذ إن الرياض لا تتعاطى مع واشنطن بمبدأ الابتزاز وطلب الفديات بل بمبدأ الندّية والتساوي والمصالح المشتركة مع واشنطن ومع سواها، وهذا ما يفسر كثرة الزيارات الأميركية الى الرياض، فواشنطن ترسل مسؤوليها الكبار من وزير خارجيتها أنطوني بلينكن الى مستشار أمنها القومي جاك سوليفان لتعطيهم الرياض شيئاً، فيما الرياض شروطها واضحة.
وبينما يتم التعامل مع إيران أميركياً على نحو متدنٍ من الابتزاز المتبادَل كون طهران محتاجة الى المال والديمقراطيين بحاجة لانتصارات، فيعطونها ليس من مالهم بل من مالها لإسكاتها.
إستراتيجية الغرب لطالما بُنيت على منطق التذرّع بالخطر الإيراني إلا أن ذلك راهناً انتهى ولعبة اتفاق الصين كانت باكورة التعاطي الندّي مع الأميركيين، وقد انكشفت طهران في مخططاتها، ففي مقابل تهجّم طهران وتوابعها على واشنطن تراهم هم أنفسهم أوائل المتعاطين مع واشنطن والساعين بجدّية لإبرام اتفاق معها.
هكذا فإن الشيعي الإيراني ليس ضد أميركا ولا ضد إسرائيل، بل فقط ضد سنّة المنطقة ونسيجهم الاجتماعي والسياسي إن أردنا قول الحق.
هذا السعي الإيراني لإبرام الاتفاق مع الأميركيين يفضح حقيقة الكذبة الإيرانية الكبيرة باعتبار أميركا "الشيطان الأكبر"، فبمجرد أن تُفرج واشنطن عن أموال إيرانية ويتم التوصل الى اتفاق إيراني- أميركي تطرب قلوب نظام طهران، لذا فإن اتفاق أميركا مع إيران على تحرير ٥ رهائن أميركيين إيرانيين في مقابل تحرير ٦ مليارات دولار من كوريا الجنوبية يفضح مدى تزلّف وانحطاط طهران وكذبها بحق واشنطن وبإدعاء العداء لها، ونظام الملالي ينتظر بفارغ الصبر عودة المفاوضات النووية مع الأميركيين ويسعى جاهداً بالإيحاء بإمكانية الاتفاق مع واشنطن، وقد خفّضت طهران حالياً إنتاجها من اليورانيوم لتشجيع الأميركيين على العودة الى اتفاق نووي كطُعمٍ ترميه للديمقراطيين، وما تلبث أن تتراجع عنه وتدّعي استكمال زيادة التخصيب إن لاحظت عدم اكتراث أميركي بعرضها.
على نحو آخر، لا يمكن اعتبار الإفراج عن الستة مليار دولار لطهران رفعاً للعقوبات عامةً عن إيران، لأن هذا المبلغ الذي سيودع في حساب وسيكون بإدارة هيئة أو لجنة تتلقى طلبات من طهران بصرف مبالغ لأغراض إنسانية ومعيشية في داخل إيران، إنما اللافت يبقى في تصرفات الإدارة الأميركية والبيت الأبيض تحديداً المتناقضة والغامضة والبهلوانية، حيث من جهة يرسل الرئيس بايدن الأساطيل والبوارج و٣٠٠٠ جندي الى المنطقة لمواجهة التهديد الإيراني في المياه والخلجان والممرات والمضايق الاستراتيجية، ويعقد بالتزامن مع نفس الإيرانيين صفقة تحرير ٥ أسرى أميركيين وتحرير ٦ مليارات دولار لصالح طهران، فلا نجد تفسيراً لهكذا تصرفات إلا الدواعي الانتخابية مع قرب الاستحقاق الرئاسي وما يفرضه من إتمام صفقات وإنجازات لصالح الديمقراطيين "للقوطبة " على الجمهوريين الذين يعارضون ويرفضون صفقة الستة مليارات لإيران كون الجمهوريين في أميركا والمحافظين في إيران يلتقون على منع إبرام أي صفقة نووية بين البلدين وعلى إسقاط أي أمل لإبرام هكذا اتفاق طوال عهد بايدن.
اذا صفقة الستة مليارات ليست سوى ورقة إنتخابية لعبها البيت الأبيض الديمقراطي لإظهار نفسه بأنه أنجز عودة سجناء أميركيين في إيران، تماماً كما إرسال الأسطول الخامس في المنطقة والخليج مع ٣٠٠٠ جندي لإظهار الديمقراطيين بمظهر الاستعداد لضرب إيران اذا اقتضى الأمر تماماً كما كان الجمهوريون ليفعلوا فعلياً لو كانوا في البيت الأبيض.
واشنطن اذاً دفعت "فدية لعصابة طهران" مقابل نتيجة متواضعة جداً: إفراج عن رهائن مقابل بقائهم في إيران ….
فهل تحصل مفاجآت بهلوانية أميركية ديمقراطية جديدة خلال الأيام المقبلة في المنطقة وبخاصة في الخليج ؟ وهل الحراك الديمقراطي في المنطقة في أجواء الاستعداد لعقد صفقات على أنواعها سينعكس إيجابياً على التقارب السعودي- الإسرائيلي طالما أن الديقراطيين مستعدون على ما يبدو لفعل المستحيل لضمان ولاية ثانية في البيت الأبيض، خصوصاً وأن أجواء أميركية تسرّب استعداد واشنطن حتى للبحث مع الرياض في برنامجها النووي السلمي وإعطاء المملكة ضمانات دفاعية صلبة.
إدارة بايدن بحاجة الى صفقة تبيعها للناخب الأميركي ولذا يستميت الرئيس بايدن لتحقيق إنجازات ومنها إنجاز يرقى الى مستوى النجاح الكلي تحت طائلة حرمانه من ولاية جديدة.
الشيء الوحيد الذي يمكن جزمه الى الآن هو أن ثمة اختراق تحقق على صعيد اتفاق سعودي- إسرائيلي بناءً لتعهدات أميركية، فلننتظر مفاجآت.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: