كتب جورج حايك
ما بعد 29 تشرين الأول 2023 في القوات اللبنانية لن يكون كما قبله، فهذا اليوم الفاصل سيكون يوماً انتخابياً داخلياً طويلاً في الحزب الذي خاض مسيرة مقاومة ونضال طويلة منذ اواخر السبعينات وحتى اليوم، بذل آلاف الشهداء في مقدمهم المؤسس الرئيس بشير الجميل، إلا أن التجربة الديموقراطية كانت منتظرة من كل المحازبين، وغالباً ما أرجئت بسبب إنهماك قيادة الحزب وقواعده الشعبية بالأحداث المتلاحقة في لبنان، إلا أن القرار إتخذ هذه المرة من رئيس الحزب سمير جعجع شخصياً والهيئة التنفيذية والأمانة العامة لخوض الانتخابات بكل تفاصيلها الديموقراطية ومهما كانت النتيجة، فماذا هناك في التفاصيل؟
من دون مقدّمات، أصدرت الهيئة التنفيذية في “القوات” قراراً يُحدّد الأحد 29 تشرين الأول 2023 موعداً لإجراء الإنتخابات الحزبية لمنصب رئيس الحزب ونائبه وأعضاء الهيئة التنفيذية، أي بعد 66 يوماً، وقد تصدّرت الدعوة كلمة مقتضبة لجعجع توجّه فيها إلى الرفاق: “إن حزب “القوات اللبنانية”، حزب الشهداء والمناضلين، ليس مطيّة للوصول إلى منصب أو مكسب، والانضواء في صفوفه هو فعل ايمان ونضال مستمرّ، وليس محطة انتخابية أو توظيفية ظرفية. إن الإنتساب إلى حزب “القوات اللبنانية” يُحتّم أعلى درجات التقيّد بمبادئ الحزب ونظامه الداخلي وسياسته العامة، وهذا يقتضي وضوحاً في الرؤية، وإخلاصاً وصدقاً، واستعداداً من قبل كل عضو من اعضاء الحزب للمحافظة على التزامه الدائم مع كل ما يترتّب عن هذا الالتزام. إنه موقف وخيار نأخذه بوعي وإرادة، فيأتي التزامنا دخولاً في مشروع واختياراً طوعياً لوجهة تاريخية لنكمل معاً مسيرة الأجيال التي سبقتنا، ونسلّم الأمانة للأجيال القادمة على دروب النضال لعزّة وطننا وكرامة إنسانه”.
حتماً كلمة جعجع معبّرة ولا تحتاج إلى تفسير، وبمجرد قبول جعجع بالتجربة الديموقراطية في مؤسسة أعاد بناءها مرات ومرات منذ عام 1986، فهذه تعتبر خطوة شجاعة تُحسب له وتنقض كل الاتهامات التي كانت تُكال له بأنه “أحادي” ويعشق السلطة وما إلى ذلك. علماً أنه في كل المراحل، ولا سيما بعد خروجه من السجن عام 2005 لم تكن قيادة “القوات” شخصاً واحداً، بل فريق عمل يأخذ شكل هيئة سياسية عمل جعجع على التعاون معها لتأسيس حزب معاصر يواكب بناء الدولة الحديثة. هو اكتسب الكثير من الوعي والنضج ليعتمد مبدأ الديموقراطية وخوض المنافسة مع أي مرشّح يرى في نفسه مواصفات رئيس لحزب مثل “القوات”.
أهمية اطلاق الانتخابات الحزبية في “القوات”، تأكيد على ان هذا الحزب ينتمي إلى المستقبل وليس إلى الماضي، وهذا مؤشّر للنموّ سيؤثّر في تركيبة الحزب الجديدة، ولا سيما لجهة تكريس مفهوم الحزب البعيد عن احزاب الأشخاص أو العائلة التي لا يستسيغها جعجع بل تمرّد عليها منذ البداية. ونمت لدى القاعدة روحيّة المشاركة السياسية، لا احتكار القرار من شخص واحد أو الاستئثار به. وهذه الروحيّة الجديدة المرتكزة على الديموقراطية، ستُفسح في المجال أمام بروز طاقات قواتية جديدة تشارك في صنع القرار الحزبي ثم الوطني حتماً.
أهم ما يجب معرفته ان كل منتسب(ة) إلى الحزب مضى على انتسابه(ا) ما لا يقل عن 3 سنوات يحق له(ا) الانتخاب، ومدة ولاية رئيس الحزب ونائبه واعضاء الهيئة التنفيذية 6 سنوات، ويحق لكل منتسب وقد اتم 15 سنة أقدمية على الأقل في “القوات”، أن يتقدّم بطلب الترشّح لمنصب رئيس الحزب أو نائبه. أما بالنسبة إلى لعضوية الهيئة التنفيذية فيحق لكل منتسب ان يترشّح لها شرط ان يكون قد أتمّ 10 سنوات أقدمية على الأقل. وقد فُتِحَ باب الترشّح في 22 آب 2023 وسيقفل يوم 13 أيلول 2023.
وستجري الانتخابات بالوسائل الحديثة أي يمكن الانتخاب الكترونياً بواسطة الهاتف الخلوي أو عبر مراكز الإقتراع.
والجدير بالذكر ان القواتيين من القيادة إلى القاعدة لا يريدون ان تغيّر الانتخابات العنوان الأساسي لـ”القوات”، وهو حزب “القضية”، فهو لا يشتري محازبيه بحفنة من الخدمات كما في الأحزاب الأخرى، لأنه ليس حزباً خدماتياً بل مؤتمناً على قضية.
وفي العملية الانتخابية، سيكون على عاتق المحازبين مسؤولية إعادة تكوين “قوات” معاصرة من دون أن تتخلى عن الجذور. وهذا ليس بصعب، لأن الأجيال التي قاومت عسكرياً في السبعينات والثمانينات وناضلت خلال مرحلة النظام الأمني اللبناني السوري في التسعينات، وصولاً إلى الكوادر السياسية النظيفة والخالية من الفساد والمثقفة سياسياً، ستنقل اشراقاتها إلى أفراد القاعدة. والتنافس سيكون لإختيار الأكثر تبصّراً وحكمة من الأجيال الجديدة من دون نسيان تجربة الماضي بل الإستفادة من التاريخ المقاوم والتعلّم من الأخطاء والخطايا، صحيح ان هناك بطولات هي مصدر فخر لكل قواتي وتضحيات شهداء، لكن المواجهة السياسية في المرحلة القادمة تحتاج إلى شباب من أصحاب الفكر والثقافة السياسية العالية غير المحدودة والمستعدة ايضاً لبذل كل التضحيات من أجل القضية حتى الاستشهاد لو تتطلب ذلك.
تشبه المؤسسة القواتية طائر الفينيق، فهي غالباً ما تعرّضت لضربات قاضية، إلا انها كانت تنبعث من النار مجدداً اقوى من السابق، فمع بشير بلغت عرش الحلم، ولكن صفقة المؤامرة، كانت أقوى وأقسى، ومن الصفر اعاد جعجع البناء، واستطاع ان يجهّز مؤسسة متكاملة وكانت فعلاً بحجم المستقبل. وتعرضت للالغاء وسلّمت سلاحها وراهن كثيرون على سقوطها مع خروج اول قافلة عسكرية من بيروت، الا انها انبعثت كحزب سياسي. الاضطهاد السوري ادخل قائدها الى السجن الصغير وصمد شبابها في السجن الكبير، وبعد 11 عاماً اعاد جعجع الحياة الى شرايين الحزب، وها هي الآن تواكب تجارب ابرز الأحزاب العالمية بانتخابات ديموقاطية، ستسمح لجماهيرها وخصوصاً المنتسبين اليها لإختيار قيادتهم حتى تبقى حركة ضمير لا تتوقف في التاريخ، فتقف في وجه الظالم مهما كانت قوّته. الانتخابات الحزبية هدفها ان تبقى “القوات” قوة تغيير، لا ظرف يلجمها. إنها ايمان مجموعة متواصلة وصلاة اجيال متلاحقة.
وسيكون في فكر كل حزبي عندما ينتخب ان “القوات” تركت سلاحها ودباباتها ولم تترك ايمانها بالوطن والانسان. سجنت ظلماً 11 عاماً واضطهدت فالتزمت الحرية إلى الأبد. عانت من التعذيب والترهيب وهدّدت بالموت أكثر من مرة، فانبعثت من رماد المرارة والتغييب القسري كطائر الفينيق، أكثر شفافية وحرية.