"التنين الصيني" في لحظة انكشاف جيو سياسي مريب

224543

على أي دولة تريد التحكّم بالعالم واستقطاب العلاقات الدولية باستقرار ودوام وتطور أن تكون هي نفسها مستقرة، لاسيما إذا كانت تسعى لمنافسة امبراطوريات قوى عظمى كالولايات المتحدة الأميركية بقواعدها الحربية ال٨٠٠ حول العالم، ودولارها الذي لا يزال يتربّع على عرش المبادلات الدولية وتكنولوجياتها العارمة الدائمة التجدّد والتشعّب والتخصّص .

نقول هذا الكلام وقصدنا الحديث عن الصين وما يحصل فيها ومعها في الآونة الأخيرة في ضوء تجلّيات غياب الرئيس الصيني شي جي بينغ عن قمة العشرين الأخيرة التي انعقدت في الهند.

غياب لافت للرئيس الصيني عن قمة " العشرين"

ثمة إشارات ومؤشرات لا توحي بأن الصين في وضع مريح لا داخلياً ولا خارجياً، ففي حين يمكن فهم غياب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن قمة العشرين على خلفية الصراع الروسي مع الأميركيين والغرب ووجود مذكرة قبض دولية في حقه، إلا أن غياب الزعيم الصيني يطرح أكثر من علامة استفهام نستعرض بعض مسبّباتها:

١ - ظاهرة تبخّر وزراء صينيين بصورة مفاجئة وغامضة واختفائهم الصادم في الوقت الذي يتجه فيه الوضع الاقتصادي الداخلي للصين نحو الانهيار، فيما البروباغندا الصينية تصوّر القوة الصينية على أنها في أوجها، فخلال الساعات الماضية حصلت هبّة إعلامية كبرى ركّزت على اختفاء وزير الدفاع الصيني وهو الوزير نفسه الذي فرضت عليه واشنطن عقوبات ورفضت في نفس الوقت لقاء نظيره الأميركي في أكثر من مناسبة.
قصة اختفاء وزير الدفاع الصيني تناقلتها وسائل الإعلام بكثير من التركيز والاستغراب وتكاد تكبر وتتفاعل مثل كرة الثلج خصوصاً أن ثمة تجربة سابقة في الصين تمثّلت باختفاء وزير الخارجية الصيني، ومن ثم صدر قرار بإقالته ثم بعودته على يد وزير الخارجية الصيني السابق، وان جلي بعد تعيين الأخير رئيس مكتب الشؤون الخارجية في الحزب الشيوعي الصيني بعد مؤتمر الحزب العام.
فما كاد لغز اختفاء ثم ظهور وزير الخارجية السابق يُحلّ حتى فوجىء الجميع باختفاء وزير الدفاع من دون معرفة الأسباب.

٢- هذه الحالة من عدم الاستقرار السياسي في الصين لها انعكاساتها السلبية على علاقات الدولة بدول العالم لا سيما وأن الصين التي تريد منافسة الولايات المتحدة الأميركية في زعامة العالم مدعوة للكثير من الشفافية في إدارة شؤون البلاد الداخلية أولاً خصوصاً في ظل حال الكساد التي تعيشها الصين اقتصادياً وارتفاع نسب البطالة في الآونة الأخيرة.

عدم استقرار واختفاء وزراء

وفي هذا السياق، فإن حالة عدم الاستقرار يُضاف اليها حالة الغموض في اختفاء الوزراء المعنيين مباشرة بحمل ومناقشة الملفات الحساسة مع الخارج قد تدفع دولاً منفتحة ومتشاركة مع الصين كالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة الى اتخاذ جانب الحيطة والحذر في تعاملها مع الصين وعدم وضع كل " البيض" أو قسم رئيسي ومهم منه في "سلة الصين"، وقد يصل الأمر اذا ما استفحل الغموض الصيني الداخلي غير البنّاء في صرف الدولتين اهتماماتهما الطليعية عن العلاقات والشراكات مع الصين.

٣ - لا يمكن التعامل مع نظام غير مستقر أو مع نظام يخفي وزراءه بصورة غامضة ومفاجئة وصادمة، وقد نسج هذا النظام علاقات إقليمية ودولية تتطلب منه البقاء شفافاً وواضحاً ومستقراً داخلياً سياسياً واقتصادياً، الأمر غير المتوفر الى الآن .
والغريب في الموضوع أن الزعيم الصيني لطالما تغنّى باستقرار بلاده السياسي وبمركزية الدولة وقوة حكمه، فاذا بوزراء يختفون بصورة غامضة ومفاجئة … ناهيك عن وصول الكساد الاقتصادي في الصين الى مستويات خطيرة جداً من التدهور.
من هنا، يمكن أن نفهم التوجهات السعودية والأميركية الأخيرة في إحياء علاقات إيجابية وقوية وتشاركية بينهما، كما يمكن أن نفهم إسراع واشنطن الى استيعاب الرياض وأبو ظبي مجدّداً إصلاحاً لأخطاء البيت الأبيض الديمقراطي السابقة في حق المملكة وولي عهدها خصوصاً، وبناءً لشراكات وتوقيع اتفاقيات تعاون تاريخية بين واشنطن والدولتين الخليجيتين.

مؤشرات عودة الدفء الى العلاقات الأميركية- السعودية

وقد تظهّرت عودة الدفء الى العلاقات الأميركية- السعودية خصوصاً من خلال سلسلة من اتفاقيات وشراكات وقّعت بين البلدين خلال أعمال قمة العشرين، وقد وصل الدفء الى حد إرسال الرئيس جو بايدن الى الرياض تلفزيوناً أميركياً للقاء ولي العهد وإجراء مقابلة مطوّلة معه، وقد خرج بيتير باير، أهم إعلامي أميركي في "فوكس نيوز"، من اللقاء مع محمد بن سلمان والتغطية فرحاُ وفي غاية الرضى، ما يشير الى نقلة نوعية كبرى في الموقف الأميركي الذي وصل الى حد التمجيد والانشغال بالتقرّب من ولي العهد السعودي، لكن عودة العلاقات الاستراتيجية والشراكات الكبرى بين واشنطن والرياض الى أفضل من سابق عهدها أطلقَ إشارات غير مطمئنة للصين ولعلاقاتها مع السعودية وأبو ظبي .

٤- عامل إضافي يؤشر الى هجمة واشنطن على الصين وتراجع الفعالية الصينية انطلاقاً من الأوضاع الداخلية غير المستقرة تمثّل بقيام واشنطن في الساعات القليلة الماضية بمنح تايوان أسلحة بملايين الدولارات، ما يمكن أن يطرح مع هذا الحدث إمكانية أن يكون لوزير الدفاع الصيني يد في هذا التسليح الأميركي الضخم لتايوان من خلال تجسّسه وتعاونه مع واشنطن وتايوان، الأمر الذي يبقى بحاجة للتمحيص والتدقيق لكنه يبقى أمراً وارداً .

٥ - غياب الزعيم الصيني عن قمة العشرين ثبّت معادلة تراجع الصين في حضورها الفاعل ودورها المستقطِب فيما تم توقيع اتفاقية الممر الهندي الموازي كي لا نقول المنافس لطريق الحرير الصيني.
ويُذكر في هذا السياق أن أرقام الشراكة السعودية- الأميركية أكبر بكثير من أرقام الشراكة الصينية- السعودية، إذ في حين تجاوزت الأرقام في الأولى مئات المليارات من الدولارات نجد مع الصين أن الارقام لا تتعدّى بضعة مليارات الى الآن.

التخبّط في الداخل الصيني لا يشجع الاستثمارات الخليجية وتحديداً السعودية والإماراتية في الصين خصوصاً وأن لا ضمانات في الصين بنظام دستوري شفاف يضمن ثبات المؤسسات ولا ضمانات ببقاء حتى الزعيم الصيني نفسه.

لا تزال ماثلة في الأذهان مشهدية إخراج الرئيس الصيني السابق هو جين تاو من قاعة المؤتمر العام للحزب الشيوعي الحاكم الى خارج القاعة بما شكّل انقلاباً عليه يومها جرى بأبشع أسلوب كما تناقلته الفيديوهات التي يمكن العودة اليها للمشاهدة.
واليوم، وبعد اختفاء وزير الخارجية السابق وبعده اختفاء وزير الدفاع تُطرح أكثر من علامة استفهام عما يضمن أن لا يحصل في أي وقت لشي جين بينغ ما حصل لهو جين تاو، مما يعرّض بالتالي مصالح وشراكات واستثمارات الدول ومنها دول الخليج وفي طليعتها المملكة العربية السعودية والإمارات لمخاطر عدم الاستقرار السياسي الصيني الداخلي والانقلابات والإخفاءات لمسؤولين وزعماء، خصوصاً وأن لا حرية إعلام في الصين ولا وسائل تواصل اجتماعي منفتحة ديمقراطياً ولا ضمانات من الحزب الشيوعي الحاكم القادر في أي وقت على إقالة مَن يشاء وتعيين مَن يشاء وإخفاء مَن يشاء .

الصين منذ قمة العشرين وحتى ما قبلها بقليل عرضة لانكشافات كبيرة وضخمة ومؤثرة على موازين انخراطها الدولي في المعادلات والنزاعات والمنافسات العالمية لا سيما في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، ما يشير الى مرحلة من عدم اليقين والتراجع الصيني حتى في أفريقيا حيث الاستثمارات والشراكات السعودية الأميركية في القارة السمراء، والتي وقّعت مذكرات تفاهم بخصوصها بين البلدين مؤخراً كفيلة بسحب ورقة حصرية الورقة الأفريقية للاستثمارات من كل من الصين وروسيا على السواء.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: