يتصاعد الجدل والصدام في قلب أوروبا بين مفهومين لا يلتقيان: مفهوم أرض الاستقبال ومفهوم أرض شعوبها.
إنقسام الأوروبيين وتصلّب المواقف من الهجرة
في الماضي طُرحت هذه المسالة أكثر من مرة ولا سيما في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي لكن بوتيرة ضعيفة نظراً لكون القارة الأوروبية كانت ما تزال متأثرة بتداعيات سقوط حائط برلين وتوحيد الألمانيتَين، ومن ثم سقوط الاتحاد السوفياتي وهجرة الأوروبيين الشرقيين الى الضفة الغربية من القارة حيث انتشروا في بلدانها وعاشوا فيها وبنوا حياتهم الجديدة.
لكن مع تصاعد الهجرة الجنوبية باتجاه الشمال في ظل الشرخ القائم بين الشمال والجنوب من العالم وتحديداً من أفريقيا وآسيا باتجاه أوروبا، بدأت المواقف من الهجرة تتصلّب وانقسم الأوروبيون مع وصول حكومات قومية وطنية الى السلطة الى قسمين: قسم يريد الاستمرار في نهج الانفتاح واعتبار القارة ودولها "أرض هجرة" للمضطهدين والهاربين من البطش والظلم والمجاعة والتخلّف،
وقسم قرر إغلاق أبوابه وشواطئه أمام أي إنسان يسعى للدخول الى بلدانهم.
بين وِبال الهجرة والخروج عن تقاليد أوروبا التاريخية
الأمر لم يقف عند هذا الحد، إذ كما يبدو فإن هذا الانقسام خلقَ مشكلة داخل كل فريق: فالفريق من الدول الذي استمر في نهجه انقلبت ضيافته الى "وِبال" عليها وباتت الهجرة رديفة لدخول كل مَن يريد الهروب ولو بطريقة غير شرعية من بلده لأي سبب إنساني أو اقتصادي أو اجتماعي يعاني منه في وطنه، فتضخّمت الأعداد ومعها تضخّم حجم المخاطر التي لم تعِها الحكومات المنفتحة على الهجرة إلا عندما انفجرت في عقر دارها، مهدّدة أمنها القومي واستقرارها الداخلي ليس فقط اجتماعياً واقتصادياً، بل أيضاً أمنياً كما حصل في فرنسا.
أما القسم الآخر من الدول التي قرّرت إغلاق حدودها فأنها واجهت مشكلة من نوع آخر تمثّلت في اتهامها من قبل شركائها الأوروبيين بأنها خرجت عن تقاليد أوروبا التاريخية كملجأ لكل مضطهد في العالم وباتت تُصنّف تلك الدول من قبل زميلاتها وشركائها في الاتحاد الأوروبي على أنها دول فاقدة للديمقراطية ولاحترام حقوق الإنسان ومنها بولندا والمجر وسواهما.
إستقبال المهاجرين بين النعمة والنقمة
الإشكالية هي في تحديد المدى العلمي والمنطقي للحق بالهجرة والاستقبال واللجوء، وفي تحديد الضوابط لمنع تحوّل استقبال المهاجرين، الذي هو نعمة مفترضة، الى نقمة تطال أمن دول الملجأ واستقرارها ومستقبلها …
والجدير بالملاحظة هنا ما تلعبه الأحقاد المتوارثة ومنها الحقد النازل على دول مثل فرنسا وبريطانيا الإستعماريتَين نتيجة تاريخهما الاستعماري الذي يرسي لمَن يريد أن ينتقم من الاستعمار قواعد هذا الانتقام من قبل مَن استفاد من لجوئه الى فرنسا وبريطانيا، ومن داخلهما راح يتآمر عليهما ويهدّد أمنهما.
هل بإمكاننا ولو للحظات تصوّر العالم على أنه جزرٌ منغلقةٌ على ذاتها حيث كل دولة تعيش لنفسها من دون انفتاح على الشعوب الأخرى والدول الأخرى المجاورة أو البعيدة …؟؟
هل بإمكاننا في المقابل تصوّر أن يكون المهاجرون أو قسم مهم منهم بمثابة قنابل موقوتة مزروعة في الداخل الفرنسي أو البريطاني أو الإيطالي أو الاسباني، يمكن في حال انفجارها أن تؤذي كثيراً تلك المجتمعات والدول؟
قبول اللجوء رسائل مفخّخة للدول الأوروبية المضيفة
المسألة شائكة بأبعادها السياسية والإنسانية والاجتماعية والاقتصادية كافةً، وما يزيد من صعوبتها أن المهاجرين في بلادهم مثل النيجر وبوركينا فاسو يرفعون العلم الروسي انتقاماً من فرنسا فيما هم أنفسهم متى أرادوا الهجرة يتوجهون الى فرنسا والشواطئ الأوروبية.
هل باتت رسالة الانفتاح وتقبّل اللاجئ الملتجئ رسالة مفخخة في زمننا هذا؟
سؤال تتوفر له إجابات مؤسفة من وحي ما يتم على أرض الواقع، فالمعوّل عليه تنظيم تلك الهجرة لا منعها وتأطيرها لا قطعها، والأفضل يكون بمعالجة أسباب تلك الهجرة ومكامنها من مصدرها، وهنا الدور الإيجابي الذي يجب على الدول الأوروبية وبخاصة دول الاستعمار السابق لعبه لامتصاص نقمة الشعوب المستعمَرة أولاً وللتخفيف قدر الإمكان من أسباب الهجرة خصوصاً أن
" الحابل يختلط بالنابل " بين مَن هو فعلاً لاجئ ومهاجر ضحية وبين من يتقمّص دور الضحية واللاجئ لغايات خبيثة وعدوانية ضد البلدان التي يقصدها.
الديمقراطية لم تعد تناسب ظروف هذا الزمن
يجب أن نعترف بحقيقة مرّة هي أن الديمقراطية التي يتغنّى بها البعض والتي يشتاق اليها البعض الآخر والتي يريد بعض آخر التمثّل بها لم تعد تناسب ظروف وحسابات هذا الزمن ولا متطلبات الأمن والاستقرار الوطني للشعوب، وقد زادت مؤخراً أمثلة نجاح الدكتاتوريات والأنظمة المطلقة أو لنقل ما توصف بالشعوبية على حساب الدول الديمقراطية ومنها على سبيل المثال لا الحصر الممالك والإمارات في الخليج، حيث رسّخت ثباتها في وجه الرياح العاتية ومنها ما سمي ب"الربيع العربي"، فرأينا كيف أن شعوباً وأنظمةً سقطت وقد كان فيها نوع من الديمقراطية الرئاسية والدستورية مثل تونس ومصر وسوريا ولبنان رغم فارق الزمان والأسباب في آتون الانقسام والاقتتال والدمار، بينما بقيت دول الخليج صامدة وزادت حالياً قوة وازدهاراً، وباتت الى حد كبير حجر زاوية في حكم النظام العالمي أقله اقتصادياً، وفي الطاقة والاستثمارات والتجارة الدولية،
وبالتالي فإن الجدلية التي تطرحها مسألة الديمقراطية في الانفتاح على الآخر واستقباله وإعطائه مقوّمات عيش حريته وكرامته الإنسانية في أرض اللجوء تتفاقم فصولاً خصوصاً أن مفهوم الديمقراطية نفسه بات موضع تشكيك واختلاف فقهي في التفسير والتأويل والتوصيف : فبولندا والمجر مثلاً تضعان مفهوم الديمقراطية في إطار حماية شعبيهما من الغريب، بينما فرنسا وبريطانيا تضعان الديمقراطية في خانة حرية التعبير والرأي لدرجة التراخي في مواجهة القلاقل وتجريد أساليب القمع الشرعي والمشروع من مضامينه تحت شعار عدم الاعتداء على كرامة الإنسان وسلامته حتى ولو كان يعتدي على القوة العامة كما يحصل في فرنسا، حيث بلغ الأمر حدّ مجاهرة اليسار الفرنسي المتطرّف بعدائه للشرطة واعتبارها قاتلة للناس ، في حين لا تقوم إلا بقمع مَن يحاول زرع الفوضى وزعزعة الأمن العام كما حصل في الأيام السوداء الأخيرة من أحداث في الصيف الماضي.
بعيداً عن الديمقراطية وطوباويتها
هل باتت الديمقراطية ومفاهيم حقوق الإنسان وِبالاً على الدول التي قامت عليها؟ الجواب نعم مع الأسف فقد باتت وبالاً عليها، وبالتالي بات على حكومات وسلطات الدول التي تتعرّض للاضطرابات وحالات عدم الاستقرار بفعل تسلّل عناصر مهاجِرة تخريبية وبفعل استغلال اليسار المتطرّف لتلك العناصر لقلب مفاهيم فرنسا التاريخية وتقاليدها وعاداتها، ومن جهة أخرى أن تجد نموذجاً جديداً أكثر انسجاماً مع واقع التدهور الحاصل بعيداً عن متطّلبات الديمقراطية وطوباويتها …
خطورة التحوّل من أرض لجوء الى أرض وباء
بعبارة أوضح، إن بقيت فرنسا أرض لجوء ليست مشكلة لكن لا أن تتحوّل الى أرض " موبوءة " بفعل حق اللجوء وهنا التحدي، فالقليل من السلطة والاستبداد العادلين والنزول عن شجرة المثاليات الموروثة من ثورة 1789 والإعلان العالمي لحقوق الإنسان لتأمين حماية الشعب الفرنسي وأمنه واستقراره كما الأرض الفرنسية كلها أمور باتت ملحّة وأكثر من ضرورية.
صحيح أننا أمام صراع فلسفي وفكري قائم بين تاريخ القيم والمبادئ وبين واقع الانهيار والانحراف والخطر الذي يتهدّد أمن المجتمع البشري، فهل وصلنا الى مرحلة الخيار بين المثل والمبادئ الإنسانية الكبرى وبين القوة والسلطة لضمان البقاء؟
إنها مأساتنا اليوم بلا أدنى شك … لكن "مُكرَهٌ" أخاك لا بطل….