مما لا شكل فيه أن ما يحصل في إسرائيل وغزة من حرب مفتوحة تطرح كل الاحتمالات على بساط البحث والتحليل، لاسيما وان ما حصل منذ السبت الفائت طرح أكثر من علامة استفهام حول التحضيرات الفلسطينية والغفلة الإسرائيلية الأمنية والاستخباراتية، والتي تبقى موضوع غموض حتى الساعة رغم المعلومات والتقارير والتسريبات من هنا وهناك حول هذه المواضيع.
مصير إسرائيل على المحك
دعونا نقول أن ما يحصل من حرب هناك يطرح لأول مرة مصير إسرائيل على المحك، حيث أن الهجمات التي اعتادت حماس والجهاد الإسلامي على تنفيذها على مدار السنوات الخمس الأخيرة لم تتجاوز حدّ المناوشات التي كانت تتصاعد لأيام ثم تهدأ بفعل تدخّلات إقليمية ودولية تؤدي الى إقرار هدنة من هنا ووقف إطلاق نار من هناك، فيما كان الجمر تحت الرماد .
صراع إقليمي وقوده السلام
ما حصل هذه المرة ومنذ يوم السبت الفائت جديد بنوعه ونوعيته ونتائجه وتداعياته، ليس فقط على إسرائيل وفلسطين بل وأيضا على المنطقة والعالم، إذ إن ما جرى ويجري، وأن كان يتخذ شكل صراع فلسطيني- إسرائيلي إلا أنه في حقيقة الأمر صراع إقليمي واضح المعالم بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة والغرب عموماً، والعرب الخليجيين الى حدٍ ما صراع وقوده السلام … نعم السلام إذ ليس مسموحاً للمنطقة أن تنعم بسلامٍ وليس مسموحاً لقيادة سعودية خليجية طموحة أن تسعى لبناء أوروبا الشرق الأوسط، لأن في ذلك تجاهل تام لمصالح طرف إقليمي يملك من وسائل خربطة وعرقلة ومواجهة ما لا تملكه دولة أخرى في المنطقة ألا وهي إيران.
طوفان الأقصى لمنع التوجه الإقليمي الجيو سياسي
من هنا فإن الحرب نقيض السلام ونقيض مشاريع التطبيع والانفتاح والتعاون الاقتصادي والتنموي والتجاري، كما أنها نقيض “ممر الهند” الى أوروبا ونقيض التطبيع السعودي- الإسرائيلي الذي لم يعد خياراً بل حتمية من دونها لا مجال لأي أفق اقتصادي وتنموي سلمي في المنطقة.
لذلك فإن عملية “طوفان الأقصى” في شكلها وتوقيتها لا شك في أنها صبّت وتصبّ في اتجاه منع هذا التوجّه الإقليمي الجيو سياسي، وأفضل طريقة لمنعه هو ضرب إسرائيل وتهديد أمنها، لا بل وجودها في المنطقة.
نتانياهو واللعب على الانتهاكات الفلسطينية
صحيح أن ما يجري وسوف يجري يضع مصير إسرائيل على المحك، ويُثبت فشل سياسات حكومات إسرائيل المتعاقبة التي غالباً ما ترأسها بنيامين نتانياهو الذي انتهج أسلوباً فاشلاً مع حماس وغزة، حين دعم حماس وبقاءها في حكم غزة لإضعاف السلطة الفلسطينية في رام الله واللعب على الانقسامات الفلسطينية بين التيار الغزاوي- الإيراني- الإخواني، وبين التيار الفتحوي في الضفة الغربية، وقد بلغ به الأمر حدّ تسهيل وصول الأموال الى غزة للإمعان في هذا الانقسام الفلسطيني، وبالتالي تجنّب وقف الإستيطان وتجنّب وجود مُحاوِر فلسطيني يقيم معه السلام على أساس حل الدولتين.
استراتجية إسرائيل غير ناجعة مع حركة حماس
الصحف الإسرائيلية، وهي المعيار العاكس للرأي العام الإسرائيلي ومزاجه، حمّلت وتحمّل بينامين نتانياهو رئيس الوزراء الحالي مسؤولية وصول الأمور الى هذه الهاوية المتفجّرة منذ السبت الفائت، معتبرةً أن أداء رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يكن على قدر التحدّيات الحقيقية والوجودية التي تحيط بدولة إسرائيل، وقد ذهبت بعض الصحف الإسرائيلية الى حدّ الطلب من نتانياهو تغيير استراتيجية الحكومة في التعامل مع حركة حماس باعتبار أن بقاء إسرائيل أصبح على المحك بسبب الحركة ووكلائها في المنطقة، وهم وكلاء إيران من حزب الله الى نظام بشار الأسد والحشد الشعبي والحوثيين وسواهم، فيما ذهبت صحف أخرى الى اتهام نتانياهو بالفاشل والفاسد وغير الأهل لحكم إسرائيل.
“جيروزاليم بوست” عكست في مقال لها أهمية أن تعمد إسرائيل على الإطاحة بحماس باعتبار أن الأخيرة لم تعد الحركة المنضبِطة والمنتظِمة وفق أجندة إسرائيل، بل باتت التهديد الوجودي المباشر لها، فاستراتيجية إسرائيل لمواجهة حركة حماس منذ سيطرتها على قطاع غزة أصبحت غير ناجعة وانهارت بالكامل، إذ في ظل تلك الاستراتيجية، كان ينبغي لحماس أن تبقى في السلطة، حيث بدا أن البدائل كانت أسوأ أو أضعف .
حماس لا تختلف عن تنظيم الدولة الإسلامية
لطالما إعتبرت الحكومات في إسرائيل أن إطاحتها بنظام حركة حماس كان سيؤدي لا محالة الى استبدالها بحركة الجهاد الإسلامي أو تنظيم الدولة الإسلامية، الأمر الذي لا يستقيم معه بأن تصبح تلك التنظيمات الراديكالية حاكمة ومحاوِرة في مفاوضات السلام والحلول النهائية للقضية الفلسطينية.
من هنا جاء التركيز منصبّاً على حزب الله وإيران الذين يشكّلان تهديداً أكبر ل أمن إسرائيل ووجودها، إلا أن ذلك التركيز أنسى حقيقة دامغة من أن حركة حماس بالنهاية لا تختلف عن تنظيم الدولة الإسلامية لكن قوتها تكمن في سيطرتها على غزة حيث يوجد أكثر من مليوني فلسطيني.
التطبيع خيار إستراتيجي لا سياسة ضيقة
في تل أبيب حالياً دراسة هدف واحد : إستسلام حماس غير المشروط وإسقاط نظامها في القطاع ولو بالقوة، وفي مواجهة التهديد الإيراني بإشعال المنطقة إن دخل الجيش الإسرائيلي الى غزة هناك التهديد الإسرائيلي بأنه وفي حال عدم تحقيق هذا الهدف بالاستسلام ستكون التداعيات إشعال حرب واسعة النطاق في الشرق الأوسط قريباً، فالمعادلة حالياً في حرب غزة معقّدة جداً وخطيرة بنفس الوقت، إذ أن أي عجز إسرائيلي عن حسم موضوع حماس سيشجع حزب الله وإيران على توسيع الحرب، فهما حالياً في مرحلة المراقبة عن كثب لتطور الموقف الإسرائيلي السياسي والميداني، ما يُفسح في المجال أمام شتى الوساطات الدولية والإقليمية لإيجاد قاعدة تخفيض التوتر والتصعيد بدءاً من مسألة استرداد المختطفين من الجانبين، لكن كل هذا لا يحجب حقيقة أن عدم تحقيق إسرائيل أي نصر حاسم فأن إيران وحزب الله سوف يعمدان الى توسيع دائرة الحرب، فيما انتصار إسرائيل سيفتح الطريق واسعاً أمام إتمام تحالف غربي- إسرائيلي- خليجي في مواجهة إيران، لا سيما وأن الرياض لا تزال تريد التطبيع مع إسرائيل كخيار استراتيجي بعيد المدى لا كسياسة ضيقة.
إنتهاء نهج الفريق بين ضفة وقطاع
إنتهت رعاية نتانياهو لحماس كما في السابق، وانتهى نهج الإبقاء على التفريق بين ضفة وقطاع، والآن بات الأمر واضحاً : إنهاء حماس أو بالحري إنهاء الشوكة الإيرانية في خاصرة القضية الفلسطينية، وبالتالي إنهاء القضية الفلسطينية بحل جذري سيرتسم تبعاً لمسار تطورات الحرب .
وحدة الساحات الممتدة من لبنان الى العراق
المعادلة في الحرب الحالية محكومة بسلسلة من الأحكام المسبقة، لا بل القناعات المسبقة والمثبّتة ربما في شق كبير منها : فبالنسبة لإسرائيل حماس لا تدافع عن كرامة الشعب الفلسطيني وحق تقرير المصير بل هدفها هو إبادة دولة إسرائيل وقتل الشعب اليهودي ويشارك الغرب هذا الاعتقاد، وبالنسبة للعرب هذه الحرب ليست حرب تحرير فلسطين بإسم كل الفلسطينيين بل هي حرب إيران في فلسطين عبر حماس ومنظماتها التابعة لها، وبالتالي أي نصرة لحماس ستعني حكماً نصرة للأجندة الإيرانية في فلسطين، ونصراً لطهران في المنطقة، الأمر الذي لا تقبل به الحكومات العربية والخليجية ويجعلها تفرمل اندفاعة الانخراط في التصعيد مع إسرائيل،
فانطلاقاً من هذه الحسابات باتت الحرب محكومة بمعادلة واضحة : إسرائيل في مقابل إيران في فلسطين نظراً الى الخطورة التي تشكلها إيران على بقاء ومصير إسرائيل، لذلك لا بد من النظر الى ما يجري حالياً في غزة وإسرائيل من منظار جيو سياسي واضح، واعتبار أن كل الاحتمالات العسكرية واردة على امتداد ” الساحات الموحدة ” من لبنان الى سوريا الى اليمن والعراق .
وفي هذا السياق، نسجل التطورات العسكرية التي لم تتعدَ إطار المناوشات المضبوطة الى الآن في جنوب لبنان بين حزب الله وإسرائيل رغم مقتل حوالي إثني عشر عنصراً من حزب الله في إحدى الاشتباكات الأخيرة مع الإسرائيليين، واستمرار إطلاق صواريخ شبه يومي من الجنوب اللبناني وردّ إسرائيل بعمليات قصف أو تمشيط محدّدة الأهداف، إلا أن ثمة ساحة أخرى لا تقل خطورة وأهمية عن الساحة اللبنانية ألا وهي سوريا التي، ومنذ سنوات باتت مسرحاً لغارات وضربات إسرائيلية مستهدفة البنى التحتية الإيرانية والميليشياوية لها في سوريا، وآخرها الخميس الماضي مع قصف مطاري دمشق وحلب،فالمخاوف من توسّع رقعة الحرب قائمة وحقيقية، وبخاصة في كل من سوريا ولبنان، و الوضع قد يخرج عن السيطرة في أي وقت وتنتقل للجبهة السورية، وهو ما يهدد بخلط الأوراق وتسعير صراع محلي وإقليمي ودولي كبير.
سوريا في مرمى ساحة الحرب
ما تسعى اليه إسرائيل من تلك الغارات هو تعطيل خطوط الإمداد الإيرانية لسوريا، وجاء الهجومان أثناء زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان للعاصمة دمشق ما اضطر طائرته للعودة الى العراق، في رسالة واضحة من إسرائيل بأن سوريا باتت في مرمى ساحة الحرب الإسرائيلية، وأن لا مكان للإيراني بعد اليوم فيها كتمهيد لتنفيذ مخططات موضوعة مسبقة سبق أن تكلمنا عن قسم كبير منها في مقالات سابقة.
إسرائيل أوصلت للإيرانيين رسالة واضحة بأن أي تدخّل في ما يجري في غزة من قبل إيران أو وكلائها الإقليميين سيعني حتماُ توسيع المواجهة وتوسّع نطاق الحرب، وصولاً الى الداخل السوري وليس فقط في الجولان، فتل أبيب تدرك بأنه ليس من مصلحة سوريا التورّط في أي صراع إقليمي في ظل ما تعانيه من مشكلات داخلية عميقة، وهي معنية بمعالجة أزماتها بدلاً من دخول حرب واسعة مع إسرائيل، لا سيما وأن سوريا ضعيفة عسكرياً قياساً بإسرائيل، علماً أنه ومن الناحية الجيو سياسة، في حال تدخّل أي طرف إقليمي في الصراع الحالي من شأنه تحويل الصراع الى حرب إقليمية، عندها سيحق للمجتمع الدولي التدخّل مباشرة، ما سيشرّع للأميركيين والغرب دعمهم لإسرائيل، لكن تكون الضحية عندها : فرص السلام والأمن والتنمية والشراكة.
هكذا نرى كم أن المعادلة محكومة بحسابات معقّدة، ومن هنا نفهم مثلاً عندما تهدّد إسرائيل حزب الله وإيران بتعريض حياة بشار الأسد للخطر إن تدخّلا في حرب غزة، كم أن العامل الروسي الداعم للأسد سيتأذى، ما يُلزم موسكو بالتدخّل لدى إيران للجمها، لاسيما وأن موسكو الى الآن لا تبدي أي حماسة لوقوع أي صراع في الشرق الأوسط .