بدايةً، دعونا نؤكد على أمرين لا نقاش فيهما : إسرائيل دولة محتلة لأرض وشعب فلسطين، وللشعب الفلسطيني الحق بالمقاومة والنضال في سبيل تحرير أرضه وقيام دولته السيّدة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
سطوع نجم “حماس” وارتماؤها في أحضان إيران
أما بعد، فإن حرب غزة الحالية أعادت الى المشهد إثارة إشكالية العلاقة بين “حماس” والمنظمات الفلسطينية في غزة من جهة، ومدى علاقتها بالعمق العربي والخليجي وطبيعة تلك العلاقة الجدلية من جهة أخرى .
مما لا شك فيه أن الدول العربية ولا سيما الخليجية، قدّمت للقضية الفلسطينية ما لم تقدّمه على مرّ السنوات أية جهات إقليمية أو دولية من مساهمات ضخمة ومساعدات جسيمة طالت مختلف مناحي الحياة لتعزيز مقوّمات صمود الشعب الفلسطيني في أرضه و سبل نضاله.
لكن مع سطوع نجم “حماس” ومنظماتها الشقيقة في قطاع غزة وارتمائها في أحضان إيران بحجة دعم القضية الفلسطينية ومساعدتها على المقاومة والصمود، بدأت الإشكالية الكبرى تُطرح من زاوية رأي عام فلسطيني وعربي وإسلامي يتنكّر لكل ماضي الدعم والمساندة العربية للقضية الفلسطينية، ويفاضل بينها وبين الدعم الإيراني بالسلاح والعتاد والمال.
تشابك وأزمة خطوط عروبية – إيرانية- فلسطينية
هنا تُطرح كل أبعاد تلك الإشكالية : العرب والخليجيون مع الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية من منطلق المصلحة العربية والإسلامية العليا، والتي تفترض التوصّل يوماً الى سلام مع إسرائيل، مضمونه المبادرة العربية للسلام والعمل على تحقيقها بصبر ومثابرة وحكمة تعود كلها بالخير على الشعب الفلسطيني وقضيته في قراءة عربية موضوعية للصراع وفي طرح متوازن يعطي الشعب الفلسطيني حقوقه أو الجزء الأكبر منها، بينما إيران لا تريد أي سلام مع إسرائيل ليس محبةً بالفلسطينيين وزوداً عن حقوقهم بل للاستثمار الدائم في ورقة فلسطين كإحدى أوراق نظام الملالي في طهران التفاوضية، لبيعها يوماً مقابل مكاسب معينة لنظام طهران.
وبهذا المعنى وبشواهد التاريخ والجغرافيا، رَكِبت إيران موجة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وزاحمت العرب والخليجيين في خيارهم الاستراتيجي بالسلام.
ومع انفصال حماس ومنظماتها الشقيقة عن السلطة الفلسطينية في رام الله والضفة إثر “الانقلاب الحمساوي” على السلطة في غزة بدعم وتشجيع من كل من إيران وإسرائيل، إنخرطت حماس ومنظماتها الشقيقة بخيار إيران المنافي للسلام، وعندها وقعت الأزمة بين الخط العروبي- الفلسطيني والخط الإيراني- الفلسطيني : الأول أوجد قاعدته في السلطة الفلسطينية، والثاني أوجد قاعدته في حماس ومنظماتها في قطاع غزة.
انطلاقاً من هذه المشهدية وإحقاقاً للحق والعدل والإنصاف، نتوقف عند الملاحظات الآتية :
- أولاً: العرب والخليج يهمهم العمل على حل القضية الفلسطينية كقضية شعب وأرض، بينما إيران لا يهمها من القضية الفلسطينية إلا اللعب على المحتوى العاطفي والمعنوي للقضية في سبيل تحقيق أهدافها وأجندتها، ولو على حساب دماء ومصالح الشعب الفلسطيني، وهو ما يتظّهر تحديداً في الوقت الراهن في الحرب التي تدور رحاها بين غزة وإسرائيل.
سعي نظام الملالي لإضعاف المبادرة العربية للسلام
- ثانياً : استراتيجية العالم العربي والخليجي تحديداً منذ ما بعد أحداث ١١ أيلول ٢٠٠١ تحوّلت من المواجهة والحرب الى السلام والتعاون، فكانت مبادرة بيروت العربية للسلام عام ٢٠٠٢ باكورة العمل العربي المشترك من أجل نقل المنطقة من حالة الحرب التي أنهكت الأنظمة العربية كافةً، بدءاً من مصر ووصولاً الى دول الخليج، كما أنها أنهكت إسرائيل أيضاً وبدرجات متقدّمة أكثر، بينما إيران لم يرقَ لها هذا التوجه، فسعت بكل ما أوتيت من قوة وتأثير ونفوذ لإضعاف المبادرة العربية للسلام من خلال إضعاف الدول والأنظمة العربية، ومن هنا كان دورها الفاعل والمؤثر في دعم انتفاضات “الربيع العربي” لزعزعة أركان تلك الأنظمة الداعية للسلام وإحلال أجواء الحروب والصراعات التي تتغذّى عليها سياسات إيران وأجنداتها الإقليمية
والدولية.
إيران ترسم ملامح مدرسة إنهزام الأنظمة العربية
-ثالثاً : ما يتردد ويُذاع ويتم تسخين قطاعات واسعة من الجمهور العربي والرأي العام الاسلامي باتهام الدول العربية وأنظمتها بخزلان القضية الفلسطينية هو جزء من هذه البروباغندا الإيرانية- الإسلاموية التي تحاول الإطاحة بمكتسبات وتضحيات تلك الأنظمة والدول في خدمة القضية الفلسطينية على مرّ العقود السابقة لإظهارها بمظهر التقصير وكل الاتكال في نجاحها على نوعين من الشعوب : تلك التي تناست تضحيات العرب والخليجيين ومشاركتهم حتى في القتال من أجل فلسطين، وتلك التي قبلت ركوب الموجة الإيرانية والإسلاموية المشوِّهة للواقع والحقيقة بالاستناد الى عامل النسيان أو إغفال التضحيات أو جحدها، علماً أن
التركيز في حملة التشويه والجحود يطال خصوصاً مصر والإمارات والسعودية والأردن حيث تُرتسم ملامح مدرسة الهزيمة والانهزامية أدى أصحاب تلك الحملات التي يغذيها نظام الملالي وعملائه الإقليميين، تلك المدرسة الانهزامية هي نفسها على سبيل المثال ما تسبب في انهزام مصر عام ١٩٦٧ وتضييع نصف فلسطين على الأقل،
وهي تأتي اليوم لإعطاء العرب والخليجيين دروساً في كيفية التعاطي مع القضية الفلسطينية من باب الوقاحة والاستعلاء والتحامل والمزايدة .
تحامل ومزايدة على العرب والخليجيين
- رابعاً : تلك المزايدات التي تغذيها التيارات الموالية لإيران وأجندتها في المنطقة على مواقف العرب والتزامهم التاريخي بالقضية الفلسطينية يسقط في شراكها السُذّج من الرأي العام العربي الذين ينقادون بعواطفهم الجياشة إزاء قضية فلسطين الى حدّ شدّ مَن آزر الشيطان، وإن كان متحاملاً ومزايداً على العرب والخليجيين في القضية الفلسطينية، والسؤال المطروح في هذا السياق : هل تصبح حماس زعيمة الأمة العربية؟ فهي قامت يوم السبت في ٦ تسرين الأول بعمل عسكري تاريخي ومهم جداً، قابلها عمل إرهابي إسرائيلي، فهل يكفي هذا لتصبح حماس زعيمة العرب؟.
الدول العربية حسمت خياراتها الاستراتيجية نحو صناعة السلام في المنطقة
في الإجابة على هذا السؤال، يُفترض أن تكون “حماس” قد وفرت العناصر الآتية :
١ – التنسيق في تحركاتها مع العرب والخليجيين، والحقيقة والواقع يفيدان أن “حماس” لم تتواصل مع الأنظمة العربية والخليجية ولم تنسق معها ولم تبلغتها بخطتها، ولا هي طلبت إذنها أو نسقت معها، وبالتالي كيف يمكن تحميل الأنظمة العربية والخليجية مسؤولية لم تُدعَ للمشاركة في صياغتها ؟
٢- هل قرارات الحرب والمواجهة العسكرية تُتخذ كردة فعل أم تكون مدروسة ومنسّقة ومنظمة وجامعة؟ هنا أيضاً تبرز إشكالية الاختلاف في النظرة الاستراتيجية، حيث الدول العربية والخليجية لا توافق نظرة حماس ومَن خلفها إقليمياً للحرب، وهي ليست لا راغبة ولا مستعدة لخوض حروب، وقد حسمت خياراتها الإقليمية باتجاه صناعة الاستقرار والسلام .
العرب لا يحاربون ولا يريدون فرض سلام بالحرب والحرب لا هي اولوية لديهم ولا يملكون القدرة على الحرب .
٣- مصر والامارات والبحرين والاردن دول التزمت بالسلام مع اقرارها المبادرة العربية وشروعها بالتطبيع مع اسرائيل لحشرها اكثر واجبارها على التخلي وتبدا رويدا عن سياساتها الخشبية في المنطقة وبالتالي لا يحق لا لحماس ولا لايران فرض الحرب على الدول العربية والخليجية وانظمتها ولا بالحري المزايدة على تلك الدول .
فمن تكون اذا حماس ومن تكون ايران نفسها لكي يهرع العرب الى الانخراط في خياراتهما وتضحي الدول بشعوبها واقتصاداتها ومصالحها الاستراتيجية من اجل قرار حرب مفاجىء لا يد لهم فيها ؟
الغزاويون ليسوا جميعاً ” حماسووين”
بعد الانتشاء من نجاح أولى ساعات المعركة والإنجازات التي تحقّقت على أرض الواقع ضد إسرائيل، هل المطلوب أن يقبل العرب بسقوط عشرات آلاف الفلسطينيين في قطاع غزة في الردّ الإنتقامي لإسرائيل؟
فلو كانت حماس مثلاً منسقة لعملياتها مع الأنظمة العربية بعيداً عن الأجندة الإيرانية، لكان بإمكانها أن تكون أكثر إفادة للقضية الفلسطينية مما هي عليه حالياً، إذ إنه لو نسّقت استراتيجياتها مع الأنظمة العربية والخليجية بدل معاداتها والارتهان في الأجندة الإيرانية لكان بإمكان ضغطها العسكري حينئذ أن يساعد الحكام العرب والخليجيين على إبرام حل للقضية الفلسطينية تحت الضغط العسكري المنسَّق مع خطة سياسية وديبلوماسية عربية متكاملة وضاغطة على إسرائيل وإميركا والغرب، لكن بدل التنسيق والتعاون والتكامل في العمل العربي المشترك، إختارت حماس تكفير الأنظمة العربية والخليجية واستعدائها والانخراط في بروباغندا إيران المزايِدة والمكفِّرة التي لن تقود إلا الى هلاك الشعب الفلسطيني وقضيته .
كيف يمكن لحماس أن تكون زعيمةً وهي لم تستشر حتى شعبها في غزة حول رأيه بالعمليات العسكرية ؟ فالغزاويون ليسوا جميعهم حمساووين، وهم بضعة آلاف حمساويين، في مقابل حوالي مليون فلسطيني غزاوي، فهل وافق الغزاويون على هدم بيوتهم وأرزاقهم فوق رؤوسهم خصوصاً وأن ثمة متوحشاً مجنوناً في إسرائيل يمكنه استغلال أي عملية عسكرية لدرجة إبادة الشعب الفلسطيني؟
” حماس” تفتقد الإجماعَين العربي والإسلامي
حماس التي اختطفت قرار أهل غزة هي نفسها التي تسعى الى اختطاف قرار الشعوب العربية والإسلامية، ولو كانت “حماس” مقاومة فلسطينية فقط لكان في الأمر نظر، لكن أن تعتبر نفسها مقاومة إسلامية يطرح السؤال : أين التنسيق مع الدول الإسلامية؟
بالخلاصة إن أكثر ما تعانيه اليوم القضية الفلسطينية هو في هوية حماس وأجندتها، فوجودها يمعن في انقسام الفلسطينيين والعرب والمسلمين حولها وهي فاقدة للإجماعين العربي والاسلامي وتابعة لأجندة إيران، ما يزيد من الشرخ بين نظرتي دعم الشعب الفلسطيني والقضية، ودعم حماس على حساب الشعب الفلسطيني والقضية …