تفاهم “القوات” و”البطريرك”…حيث لا يجرؤ الآخرون!

Lebanese-forces-bkerki

لا مساومة على الثوابت الوطنية والمسيحية لدى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي و”القوات اللبنانية”، وقد اثبتت معركة التمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون أنه لا يضيع حق وراءه مطالب، ولو أهمل البطريرك و”القوات” هذا الملف، كان رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل تمكّن من تنفيذ خطته التي تنطلق من مآرب شخصية لا تأخذ في الإعتبار المصلحة اللبنانية العليا، وعرّض المؤسسة العسكرية لمخاطر كبيرة وخصوصاً أن البلد يشهد “ميني” حرب في الجنوب.

طبعاً خطة باسيل المشبوهة كانت تقضي بأن يقوم وزير الدفاع موريس سليم، بإيعاز من رئيسه باسيل، بتحضير مرسوم لتعيين قائد للجيش. وطرح سليم هذا المشروع على الرئيسين بري وميقاتي خلال جولته عليهما. أما الخيارات الاسمية فكانت محصورة بثلاثة: مارون القبياتي (محسوب كلياً على باسيل)، ايلي عقل (نصفه عند باسيل والنصف الآخر عند “حزب الله” نتيجة موقعه كمسؤول عن منطقة الضاحية وتنسيقه الدائم مع مسؤولي المنطقة)، وطوني قهوجي مدير مخابرات الجيش (الذي ييرتاح اليه باسيل و”الحزب”).

في المقابل، كان التنسيق بين “القوات” والبطريرك الراعي في ذروته، ولم يعد سراً أن قنوات الاتصال بين جعجع والراعي مفتوحة دائماً ولا سيما خلال الاستحقاقات الكبيرة أو عن طريق موفدين لـ”الحزب” ونواب في تكتل “الجمهورية القوية”، وكان الهدف إفشال مشروع باسيل التخريبي القائم على الكيدية السياسية، والرغبة بإبعاد العماد عون مهما كان الثمن رغم خطورة المساس بتراتبية المؤسسة العسكرية. وفي موازاة ذلك، كان رئيس الوزراء نجيب ميقاتي موافقاً مبدأياً على مسألة التعيين، مبلغاً الوزير سليم أنه مستعد عليه في حال توافر التوافق بين الكتل السياسية الأساسية. ولكن شبكة الاتصالات بين بكركي وميقاتي والرئيس نبيه بري عطّلت المشروع، وحتماً مع اصرار “القوات” وحلفائها في المعارضة على التصدي لخطة باسيل، وقد وضع تكتل “الجمهورية القوية” حلاً بديلاً لمسألة التمديد لقائد الجيش من خلال مجلس النواب، مقدّماً اقتراح قانون يقضي بـتعديل سنّ التسريح الحكمي من الخدمة العائد لرتبة عماد في الجيش، بحيث يصبح 61 سنة بدلاً من 60 سنة، ويستفيد منه بشكل خاص قائد الجيش، على اعتبار أنه الوحيد الذي يحمل رتبة عماد. علماً أن بري لم يكن في وارد أن يقبل بأن يعيّن باسيل قائد الجيش الذي يريد، وهذا ما تطابق مع توجهات البطريرك و”القوات” التي كان لها اعتبارات وطنية أبعد من تسجيل النقاط على باسيل فقط، وأهم هذه الاعتبارات ما يسمّى Raison d’Etat أو الأمن القومي والمصلحة اللبنانية العليا، وضرورة عدم ارباك الجيش في الوضع الحالي غير المستقر وخصوصاً ان قائده نجح في مهامه وليس هناك داع في الوقت الحاضر لخطوة ناقصة، إضافة إلى ان “القوات” و”البطريرك” يؤمان بأن الأصول والأعراف تقضي بأن يكون لرئيس الجمهورية الحق في تسمية قائد الجيش من منطلق أنه سيتعاون معه كامل عهده، والآن لا وجود لرئيس الجمهورية في ظلّ التعطيل الذي يمارسه الثنائي الشيعي.

من المؤكّد ان باسيل حاول تقليب رأي البطريرك الراعي، وجعله يتخلى عن فكرة التمديد للقائد جوزيف عون، وأرسل سليم جريصاتي إلى بكركي لوضع ملف مدير المخابرات العميد الركن طوني قهوجي في عهدة الراعي، بهدف التخلص من عون، والمفارقة أن باسيل “الكيديّ” غير المسؤول تراجع عن مطلبه الذي يقول عنه “مبدئي” بتوقيع الـ24 وزيراً، وتعهد بحضور وزرائه الجلسة الحكومية لإجراء تعيينات شاملة تضم قائد الجيش ورئيس الأركان والمجلس العسكري، وارتضى باسيل مرغماً أن يقترح وزير الدفاع موريس سليم على الحكومة، ويوقّع على المرسوم منفرداً الى جانب الرئيس ميقاتي (الذي لطالما حمّلوه مخالفة الدستور وعدم الالتزام بالمادة 62 منه، وعدم الالتزام بالاجماع الوزاري في ظل الشغور الرئاسي). هذه التقلبات السياسية وفقاً للمصلحة الشخصية تمثلت بمقاطعة وزراء باسيل جلسات الحكومة التي كانت مخصصة لشؤون الناس، وحل قضاياهم بذريعة صلاحيات رئيس الجمهورية، واحترام الموقع المسيحي الأول وعدم تفرد رئيس الحكومة السني بصلاحيات الرئيس الماروني، أما وأن الفرصة وصلت أمام باسيل فباع الصلاحيات وأضعف موقع رئاسة الجمهورية ووضع قدمه على طريق بعبدا ليطرح نفسه مرشحاً أوحد!

 وبالتالي مبادئ باسيل اللفظية لا الفعلية انقلب عليها، وقدم تعهداته هذه عبر وزيره سليم، الى الرئيسين بري وميقاتي، وبات الاتفاق منجزاً بانتظار انعقاد الجلسة وتنفيذ الاتفاق على طاولة الحكومة، وتعيين العميد قهوجي قائداً للجيش في ظل الشغور في الرئاسة الأولى. وبذلك يكون باسيل قد تخلّص من عون وأزاح من دربه مرشحاً رئاسياً.

لا شك في ان “حزب الله” لم يكن معارضاً لتوجهات باسيل، بسبب تجربة العميد قهوجي مع حركة “أمل” و”حزب الله” وارتياحه لتعيين قهوجي. إلا أن التنسيق بين البطريرك الراعي و”القوات” لم يتوقّف، إضافة إلى باقي مكوّنات المعارضة، واستمالة “القوات” للنواب السنّة وطمأنتهم بأن هذا المعيار سيطبّق أيضاً للتمديد للواء عماد عثمان، وقد أثّر الموقف المسيحي المتماسك المتمثّل بالبطريرك الراعي و”القوات” وبقيّة قوى المعارضة بخيارات الرئيس ميقاتي الذي أعاد النظر في مسألة قبوله بخطة باسيل الحكومية لتعيين قائد جديد للجيش، فقرر التريّث، فيما درس الرئيس بري المشكلة من كل جوانبها، ورغم اعتباره أنها مشكلة مسيحية مسيحية، وهو ليس بالوصف الدقيق، إلا أنه ابدى مرونة في فتح مجلس النواب لجلسة تشريعية تُطرح فيها بنود عدة، من بينها التمديد لقائد الجيش.

لا شك في ان بري، أراد أن تدفع “القوات” الثمن، فهي ترفض التشريع وتعتبر المجلس هيئة انتخابية مخصصة لإنتخاب رئيس للجمهورية، إلا أن خطورة الوضع، ومصلحة الدولة العليا وإمكانية ضرب المؤسسة العسكرية من قبل باسيل و”حزب الله” دفع “القوات” إلى القبول بحضور الجلسة التي ينوي بري تحديد موعدها قريباً، وبذلك تكون جهود البطريرك الراعي و”القوات” نجحت في تمرير التمديد للعماد عون وأفشلت الخطة التخريبية لباسيل المفلس سياسياً وشعبياً، إلا من دعم “حزب الله” وفق معادلة “السلاح والفساد”.

في الخلاصة، إن التعيين والتمديد باتا متعذرين في الحكومة، وملف قيادة الجيش أصبح في قاعة الهيئة العامة في مجلس النواب، والتمديد له يحتاج فقط الى 33 صوتاً في جلسة مؤمن نصابها (65 نائباً)، ويُتوقع أن يستفيد اللواء عثمان من التمديد بناءً على مطلب نواب السنّة. من جهة أخرى، تقاطعت كل من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية والسعودية وقطر مع توجهات المعارضة اللبنانية وإرادة البطريرك الماروني في دعم التمديد لقائد الجيش.

واللافت أن مسارات التفاهم بين البطريرك الراعي و”القوات” لا تتوقف عند إنجاز التمديد للعماد عون في قيادة الجيش، إنما تشمل أيضاً انتخاب رئيس للجمهورية سيادي وإصلاحي يعيد إلى الرئاسة الأولى دورها الساهر على الدستور وليس الانقلابي على الدولة والدستور، فلا أحد يتوقّع من رئيس الجمهورية العتيد ان يبسط سيادة الدولة وينزع اي سلاح غير شرعي خارجها، ولكن ما هو متوقّع من هذا الرئيس ومطلوب ان يكون المدافع الأول عن الدولة والدستور والسيادة والإصلاح، والمرجعيتان الفاعلتان يواجهان الفريق الممانع الذي يريد رئيساً لجمهوريته الممانعة في استمرار لعملية الانقلاب على الدولة والدستور.

أما الملف الشائك الذي يستدعي التنسيق الدائم بين البطريرك و”القوات” فهو التطبيق الفعلي للقرار 1701 بما يضمن سيادة لبنان وسلامة اللبنانيين ويقطع الطريق على محاولات جر البلد من اي جهة إلى الحرب التي تدمِّر ما لم تدمِّره الممانعة بعد، فضلا عن الأضرار البشرية والمالية الناجمة عن عدم تطبيق هذا القرار والمتمثلة في إقحام “الحزب” الشعب اللبناني بحرب غزة وكأنه الآمر والناهي في لبنان، فيتخذ قرار الحرب من دون العودة إلى أحد.

من الطبيعي أن بكركي ليست مرجعية مارونية مسيحية فقط، إنما أيضاً مرجعية وطنية وقد ظهر ذلك بوضوح من خلال الزيارة التي قام بها الراعي مؤخراً إلى الجنوب، ولقاءاته الإيجابية مع كل المكوّنات الدينية والوطنية والإسلامية هناك.

قد يكون للبطريرك أسلوبه الخاص في التعاطي مع الشؤون الوطنية، إلا أنه يلتقي على نحو لافت مع “القوات” حول الثوابت الوطنية الأساسية، وهما يتكاملان، فالبطريرك يحتاج أحياناً إلى قوة سياسية تترجم توجهاته الوطنية والمسيحية في المؤسسات الرسمية ولا سيما في مجلس النواب، و”القوات” تحتاج إلى غطاء مسيحي ووطني لترجمة خياراتها في الاستحقاقات الكبيرة والداهمة.

وليس سراً أنه عند كل حملة تقوم بها جماعة الممانعة على البطريرك الراعي لتخوينه، تنبري “القوات” إلى الدفاع عنه، لأن هذا الموقع بالنسبة إليها ولكل المسيحيين، أعطي مجد لبنان.

في المحصلة، يستحق التفاهم بين البطريرك و”القوات” شعار “حيث لا يجرؤ الآخرون” في هذه المرحلة، إذ يواجها التقاطع بين فريق انقلابي بمشروعه السياسي، وبين فريق انقلابي بأطماعه السلطوية والمالية، وتأكّد أكثر فأكثر أن لا همّ لدى تحالف “تفاهم مار مخايل” هذا سوى مصلحته على حساب مصلحة البلد. أما البطريرك و”القوات” فلا هدف لهما سوى دولة تُمسك حدودها وتفرض سيادتها وتطبِّق دستورها وتستأثر بقرار الحرب والسلاح وتحاسب كل معتدي على أمن اللبنانيين واستقرارهم.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: