في زوايا الأخبار البعيدة، قرأتُ عن "خافيير ميلي"، الرئيس الأرجنتيني الجديد، وعقلي يقارن الأمل هناك مع جدار اليأس اللبناني. رجل مغامر، خارج عن القوالب، لا يرتدي ثوب النظام السياسي البالي، بل يرقص رقصة جريئة على حبال التغيير. رأيت فيه شيئاً من روح لبنان التي نفتقدها، شجاعة الخروج عن المألوف، وطموح السباحة في بحار لم تُرسم خرائطها بعد.
رئيس كان شعاره الإنتخابي فظ: "تحيا الحرية اللعينة!". ما أن وصل إلى الحكم حتى قام في اليوم التالي بإلغاء نصف الوزارات قائلاً: "لا داعي لكل هذا الإسراف، فلنبدأ بالعمل لتخفيف الإنفاق ومعالجة أزمات الأرجنتين الدائمة. هيا إلى العمل".
رجل مغامر لا شك، فيما لبناننا اليوم، أشبه بسفينة عالقة في رمال اليأس، يقودها بحّارة متفرقون، خائفون من خوض عُباب التغيير. أحزاب متخشّبة تستميت في التمسك بحطام السلطة، وزعامات متخاصمة ترى في اختلافاتها حقوقاً وثوابت أهم من الحقوق العامة والثوابت الوطنية. نكرّر نفس الوجوه والأخطاء في لبنان، ثم نأمل بنفس الخُطب البالية أن تُظهر معجزات لم تتحقق منذ زمن سالف. حتى من رُشِحوا للانتخابات الرئاسية اللبنانية طوال السنة الماضية كانوا من التقليديين؛ أسماء تحب النظام، التقليد والتكرار. لا مغامِر واحد بينهم البتة.
ولكن يا ترى، ماذا لو كان الحلّ في المغامرة؟ أي في انتخاب رئيس وسلطة مغامِرة لا تخاف الجديد، لا تحب التكرار ولا تلتزم بقواعد اللعبة السياسية اللبنانية المملة. ربما نحتاج إلى "خافيير ميلي" لبناني يضرب على الطاولة فيقول للمتعاركين: "كفى!". ربما نحتاج إلى جنون الحلم في مواجهة عقّال الواقع، كما وشجاعة طرح الأفكار "الخارجة عن الصندوق" في وجه عقول مكبّلة بتقاليد متحجّرة. نحتاج، ربما، إلى رئيس يُعيد صياغة هوية لبنان بعيداً عن العصبيات والأحزاب القائمة، وأن يبني وطناً يتسع للجميع تحت جناح الدولة، لا أن يُوزِّع غنائم الحُكم على قلة محظوظة.
نحن اللبنانيين أبناء المغامرة والمقامرة! تاريخنا حافل بحكايات السفر والكفاح، كما والمغامرة في عُباب البحار والأسفار. لكن يبدو أن الجُبن تسلّل إلى جيناتنا، أو أن الخوف من المجهول شلّ قدرتنا على الحلم. نحتاج إلى استرجاع تلك الروح المغامِرة، تلك الشجاعة التي دفعت بنا يوماً لِعبور المحيطات وبناء الإمبراطوريات.
لا أقول أنّ "خافيير ميلي" نموذج يُحتذى، ولا أن حلّ الأزمة اللبنانية يكمن في استنساخ تجربة أجنبية. لكنني أؤمن بأنّنا بحاجة إلى جرعة من الحلم والجنون، إلى خروج جريء عن المألوف، إلى رهان على عقل شاب وشجاع يرى لبنان غير هذا الوطن المقسّم والمشرذم، والسياسة فيه تعيش في ثلاجة الانتظار لا تتعب من كلل أو ممل.
نحن بحاجة إلى رئيس يتحدث لغة المستقبل، لا لغة الماضي. رئيس لا يغرق في وحل المصالح الحزبية والرهانات الخارجية، بل يضع مصلحة الوطن فوق كلّ اعتبار. رئيس يمتلك شجاعة الحلم وجنون المغامرة لإعادة بناء لبنان يليق بأبنائه، لبنان يتسع للجميع، لبنان حرّ منفتح، لا لبنان المتشرذم الخائف.
فهل نجرُؤ على خوض هذه المغامرة؟ هل نخرج عن قواعد اللعبة القديمة ونكتب فصلاً جديداً من تاريخ وطننا؟ أم نبقى أسرى لزعامات لم تُقدّم لنا سوى الخراب واليأس وتكرار الخطابات نفسها؟
اختيارنا، وليس القدر، من سيحدّد مستقبل هذا الوطن. فلتكن مغامرة الحلم خيارنا في العام القادم، ولنغرق مع "خافيير ميلي" اللبناني، أياً كان اسمه، في رحلة التغيير، لعلّنا نصل يوماً إلى موضِع الأمل، حيث يبني أبناء لبنان وطناً جديداً على قواعد من الحلم والعدالة، وطناً يتسع لخصوماتنا وطموحاتنا، لطوائفنا وأحلامنا، وطناً لا يُقصي أحداً ولا يُضيّع حلماً، وطناً يرقص على وقعِ الموجِ والفرح، فيغرق العالم بأسره في سحره وتألقه.
نعم، نحتاج إلى خوض هذه المغامرة. نحتاج إلى استعادة روح لبنان الأصيلة، تلك الروح التي لا تخاف المجهول، ولا تكتفي بالواقع المُرّ. نحتاج إلى رئيسٍ عام 2024 يكون صوته صدى لحلم شعب لا يموت، وصورته انعكاساً لنفس وطنية توّاقة للإنبعاث.
.
ليكن العام القادم هو عام المغامرة اللبنانية، ففي رحابها قد نجد ضالّتنا: لبناناً جديداً، وطناً حراً، وشعباً سعيداً.