"الخاصرة الرخوة"، "الحديقة الخلفية"، "الجزء السليب من الجغرافيا التاريخية"، "دفاعاً عن الأمن القومي"، "التخلص من وكر المؤامرات والتخطيط للإنقلابات"، "درءاً للمخاطر الإستراتيجية"، هذه عيّنة من العبارات والحجج التي يتذرّع بها أي محتل عبر التاريخ لتبرير انتهاكه سيادة جاره وغزوه أراضيه في العلاقة بين دول الجوار متى لم يتوفّر التكافؤ في القوى. إلا أنه في لبنان، ثمة من بين الأفرقاء الداخليين مَن أراد أن يتّهم المسيحيين باستجداء دخول سوريا الى لبنان، متغاضياً عن حقيقة دخولها ميدانياً والبعد الآيديولوجي عملياً.
لكن الخطاب التاريخي للرئيس السوري الراحل حافظ الاسد في جامعة دمشق في 20 تموز 1976 أعطى الجواب القاطع عن هذه الحقيقة وهذا البعد، داحضاً الأكاذيب والهلوسات والفبركات ورغم ذلك ثمة من له أذنان سامعتان وسمِع وكأنه لم يسمع.
ففي البعد الآيديولوجي العقائدي، لم تعترف سوريا يوماً بلبنان قبل استقلال 1943 وبعده، وأوجز الأسد الأب هذا الأمر بقوله في هذا الخطاب "سورية ولبنان عبر التاريخ بلد واحد وشعب واحد".
أما حقيقة دخول جيشه الى لبنان، ففنّدها الأسد بشكل مسهب في هذا الخطاب معلناً حرفياً: "قررنا أن ندخل تحت عنوان جيش التحرير الفلسطيني وبدأ جيش التحرير الفلسطيني بالدخول إلى لبنان ولا أحد يعرف هذا أبداً، الذين يتحدثون الآن بإسم فلسطين ويعيشون حالات من الوهم ويتنكرون لكل جهد بذلناه من أجلهم هؤلاء لم يكونوا على علم بقرار إدخال جيش التحرير الفلسطيني ولم يعلموا به إلا عندما أصبح داخل الأرض اللبنانية. لن نأخذ رأيهم ولن نأخذ رأي الأحزاب الوطنية وبطبيعة الحال لم يكن أحد منهم مستعداً لمناقشتنا في أي إجراء، المهم هم يطلبون إجراء ما ننقذهم به".
حسمها الأسد بأن الدخول السوري الى لبنان لم يكن بطلب من أحد ولم ينتظر إذناً من أحد، مذكّراً أن تدخلاته كانت سابقة لحرب 1975 لإنقاذ البندقية الفلسطينية شكلياً وتكريس دور إقليمي عملياً بقوله: "في عام 1969 كان لنا موقف في لبنان، أنقذنا فيه المقاومة، في عام 1973 كان لنا موقف في لبنان نحن الوحيدون أنقذنا المقاومة. في عام 1976 دخلنا إلى لبنان كما ذكرت منذ قليل من أجل المقاومة وأنقذنا المقاومة".
ما تقدم فقط لإنعاش ذاكرة بعضهم عن إحتلال عسكري دام 40 عاماً. توهم كثر أنه "باقٍ باقٍ باقٍ"، فلم يكتفوا بالإستسلام أمامه ويخجلون بل راحوا يهزأون من مقاوميه وينقضّون عليهم وينكّلون بهم من باب تقديم أوراق الطاعة للمحتل أو إرضاء لعقد تاريخية دفينة .
26 نيسان 2005 هو درس للمستسلمين اليوم أمام "عنجهية" سلاح غير شرعي و"فائض قوة" "حزب الله" ببعده الإقليمي ومشروعه المناقض للمشروع اللبناني، وأمام كل ما تأتى عن ذلك وأوصلنا الى الإنهيار الحتمي.
لكن ثمة درس آخر بشهادة كل التجارب التاريخية التي تثبت أن أي جلاء عسكري لا يكتمل إلا متى ترافق مع خطوات لإزالة تداعيات آثاره الميدانية والسياسية والنفسية والأخلاقية.
ميدانياً، إنسحب جيش الأسد في 26 نيسان 2005 مطأطأ الرأس بعد نضال تراكمي تقاطع مع ظرف دولي وزلزال محلي تمثل بإغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 ولكن لم يحاكم أي من عملائه ومخبريه أقله معنوياً.
فجلاؤه كان أشبه بـ"سباق البدل" حيث سلمّ صولجان حكم محور الممانعة للبنان الى "حزب الله" الذي نجح بالإلتفاف على "الإستقلال الثاني" أولاً عبر دخوله للمرة الأولى في الحكومات عام 2005، وثانياً عبر جلوسه على طاولات حوار أكسبته الوقت. ثم بدأ يستعيد التوازن مع إستخدام الغطاء الذي أمّنه له الجنرال ميشال عون في "ورقة تفاهم مار مخايل". بعدها إستعاد "مشروعية معنوية" عند كثر داخلياً وعربياً من جراء حرب تموز 2006. ثم بعد أن اشتد ساعده وفرمل تطبيق الإندفاعة الدولية عبر قرارات كالـ1559 و1701 كانت "غزوة بيروت" في 7 أيار 2008 وما تلاها من ربط نزاع أو إنكفاء من قبل بعض قوى "14 آذار".
كل ذلك جاء على وقع مسلسل الإغتيالات والإنفجارات المتنقلة.
شكّل "حزب الله" على رأس قوى "8 آذار" الوريث الشرعي للإحتلال السوري وأدى الى إستدامة مفاعيله. ففي أي دولة متى يدحر المحتل:
- يتم فكّ أسر المعتقلين لديه وهذا لم يتم ولم يُفرج عن أي لبناني من السجون السورية.
- يعاد النظر بكل الإتفاقيات التي أبرمت تحت سلطة الإحتلال لأنها حكماً تكون لمصلحته، وهذا لم يتم ولم يُمس بـ" معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق" بين سوريا ولبنان التي وقعت في 22 ايار 1991.
- يعاد النظر بأُطر التواصل بين البلدين وهذا لم يتم، رغم النجاح الجزئي لقوى "14 آذار" بالدفع لإنشاء سفارتين بين البلدين مستفيدة من دعم دولي، لأنه لم يتم إلغاء "المجلس الأعلى اللبناني – السوري". للأسف حين طرحت "القوات اللبنانية" الأمر على طاولة مجلس الوزراء في الجلسة الأولى للحكومة التي شاركت بها عبر الوزير ريشار قيومجيان، إنفجر غضب رئيس الجمهورية ميشال عون وحلفاء سوريا بوجه قيومجيان الذي طالب بإلغاء هذا المجلس.
- يعاد النظر بالأحكام القضائية لأن أي حكم قضائي في ظل الإحتلال ساقط وهذا لم يتم.
- يكّرم المقاومون والأسرى وهذا لم يتم إذ تكرّر مشهد مجلس الوزراء في أروقة مجلس النواب حيث أعيق إقتراح القانون الذي تقدمت به "القوات" من أجل تأمين حقوق للمحررين من السجون السورية، أقله بمساواة مع المحررين من السجون الإسرائيلية.
- تخليد ذكرى جلاء المحتل وهذا لم يتم ولم يُدرج 26 نيسان 2005 كيوم وطني أقلّه أيضاً كـ25 أيار 2000. مع العلم أنه في تاريخ الشعوب "لا إحتلال بسمن وإحتلال بزيت" كما أن إحتلال أهل القُربة أشدُّ مضاضة.
قد تكون هناك ظروف موضوعية وأعذار منطقية عدة لعدم إكتمال هذا الجلاء وربما قد يكون السبب إستخفاف أو حسابات بعض من قوى "14 آذار" التي كان باستطاعتها في مرحلة محددة إزالة بعض تداعيات الإحتلال السوري ببساطة كتأمين حقوق الأسرى المحر؟رين من سجونه أو فرض 26 نيسان يوماً وطنياً. لن ندخل في تحميل المسؤوليات وتقييم الأعذار والمبرّرات، ولكن الأكيد أن الجلاء السوري لن يكتمل ما لم تحقق النقاط الواردة أعلاه، ولبنان لن ينهض ما لم يكتمل الجلاء.