كتبت جوزيان الحج موسى في "نداء الوطن":
على مدى سنوات، لم تعد البنية التحتية العامة في قطاع الاتصالات مجرّد أصول تملكها الدولة وتديرها لمصلحة المواطنين، بل تحوّلت تدريجيًا إلى أداة بيد مجموعة محدودة من الشركات الخاصة. مثلًا تحت اسم "Holcom"، اجتمعت أربع شركات كبرى – GDS، IDM، Cyberia و Cable Vision لتكرّس حضورها الدائم في السوق، وسط تساؤلات متكرّرة حول طبيعة العقود التي نظّمت هذا النفوذ.
المفارقة أنّ الامتيازات لم تكن موزّعة بشكل متساوٍ. بعض الشركات أُلزمت بتحويل نسب عالية من إيراداتها إلى الخزينة، فيما استفادت أخرى من شروط أخفّ. هذا التفاوت عزّز الانطباع بأن القوانين لا تُطبَّق بمعيار واحد، وأنّ شبكات النفوذ كانت قادرة على فرض استثناءات لا يحصل عليها الجميع.
في خلفية هذه المنظومة، يبرز اسم رالف عودة. ربّما هو قليل الظهور إعلاميًا، لكنّ بصماته واضحة في تفاصيل العقود التي سمحت لـ "Holcom" بالتمدّد وتثبيت موقعها. النتيجة كانت رسوخ امتيازات خاصة، فيما بقيت كلفة هذه الترتيبات تُحمَّل في نهاية المطاف على الدولة والمستهلك.
التحوّل الأوضح جاء في أيار 2017، مع قراري وزير الاتصالات السابق جمال الجراح (365/1 و 395/1). بموجبهما، مُنحت شركتا GDS وWaves/Connect حق مدّ الألياف الضوئية عبر مسالك الدولة وبيع خدمات نقل المعلومات، مقابل نسب من الفواتير (20 % لـ GDS و40 % لـ Waves وفق تقارير). وبذلك، انتقلت الأصول العامة رسميًا إلى خدمة امتيازات خاصة، تحت غطاء قرارات وزارية أثارت جدلًا لا يزال يتردّد حتى اليوم.
القانون 431 والمرسوم الاشتراعي 126: النصوص التي تمّ تجاهلها
يعود الخلل في هذا الملف إلى الإطار التشريعي لقطاع الاتصالات. فالقانون رقم 431/2002 نصّ بوضوح على وجوب إنشاء الهيئة الناظمة للاتصالات وشركة ليبان تليكوم لتتولّى الإشراف على أي عملية تحرير للسوق أو منح تراخيص جديدة. كما حدّد أن منح أي امتياز يتعلّق بالخدمات الأساسية يجب أن يتمّ بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء بعد مزايدة علنية، مع حظر منح أيّ حق حصريّ لمدة 20 عامًا.
لكنّ الواقع جاء مختلفًا تمامًا. لم تُنشأ "ليبان تليكوم"، والهيئة الناظمة شبه مشلولة منذ تأسيسها، ما فتح المجال أمام الوزراء لإصدار قرارات تنفيذية تمسّ جوهر البنية التحتية الوطنية، من دون المرور بالإجراءات التي نصّ عليها القانون.
إلى جانب ذلك، هناك مراسيم اشتراعية سابقة تضع قيودًا صارمة على إشراك القطاع الخاص في إدارة وتشغيل الشبكات، منها المرسومان الاشتراعيان 126 و 127 لسنة 1959، اللذان يحصران إنشاء وتشغيل الشبكات الهاتفية بوزارة الاتصالات والمديرية العامة للهاتف، والمرسوم 9288 (1996) الذي يحدّد سقف ملكية القطاع الخاص في أي شركة مشغّلة بنسبة لا تتجاوز 20 %.
قرار الجراح خالف هذه النصوص مجتمعة، بمنحه شركات خاصة حقًا حصريًا في استثمار البنية التحتية العامة من دون مرسوم، ومن دون منافسة مفتوحة، وبنسب مشاركة مالية غير مدقّقة علنًا.
قرارات بلا أساس قانونيّ
القرار 365/1 وتوأمه 395/1 لم يقتصرا على منح حق استخدام المسالك العامة، بل أعطيا أيضًا للشركات حق تشغيل الشبكات الدولية والبصرية في وقت واحد، وهو ما اعتبره ديوان المحاسبة تجاوزًا لمبدأ المنافسة ومصدرًا محتملًا لاحتكار السوق. فالشركات، بطبيعة عملها التجاري، ستتركّز على المناطق ذات الجدوى الاقتصادية الأعلى، ما يعني إهمال المناطق الطرفية أو الأقل ربحية، خلافًا لمبدأ المرفق العام الذي يلزم بتوفير الخدمة على قدم المساواة.
إضافة إلى ذلك، تضمّن القرار استيفاء رسوم من الشركات، وهو ما يضعه تحت أحكام المادة 144 من قانون الموجبات والعقود، التي تشترط تحديد الرسوم بقانون أو بمرسوم، لا بقرار وزاري فرديّ.
التدخل القضائي ووقف التنفيذ
في 19 كانون الثاني 2018، وبعد مراجعات تقدّمت بها جهات عدّة، منها الاتحاد العمالي العام وهيئة "أوجيرو"، أصدر مجلس شورى الدولة قرارين إعداديّين بوقف تنفيذ القرارين 365/1 و 395/1. حيثيات القرارين أشارت إلى أن هناك شبهة جدية بتجاوز حدّ السلطة، وأن المشروع يمسّ أصولًا عامة لا يجوز التصرّف بها إلّا عبر الأطر التي حدّدها القانون 431/2002.
أعلن الجراح حينها التزامه بوقف التنفيذ، لكنّ المعطيات اللاحقة أظهرت أنّ التنفيذ لم يتوقف فورًا، وأن بعض الأعمال والجبايات ربما استمرّت بطرق ملتوية أو عبر صيغ جديدة، ما أثار تساؤلات حول احترام قرارات القضاء في هذا الملف.
المدير العام السابق لهيئة "أوجيرو" عماد كريدية: "قرارات الجراح أضعفت القطاع العام لصالح الخاص"
أوضح المدير العام السابق لهيئة "أوجيرو" عماد كريدية أنّ وزير الاتصالات السابق جمال الجراح منح شركة GDS امتياز مدّ كابلين من الألياف الضوئية في منطقتي الحمرا والأشرفية، على أن تستفيد الشركة من أحد الكابلين، فيما يبقى الآخر لصالح الوزارة وأوجيرو. ولفت إلى أنّ الخطوة كانت بمثابة "تجربة"، من دون أي كلفة مباشرة على الوزارة أو الهيئة.
لكن سرعان ما أثار هذا القرار اعتراضات، ما دفع الجراح إلى إصدار مرسوم حكوميّ يفتح المجال أمام جميع شركات الـ DSE المرخّصة سابقًا لتقديم خرائطها والمشاركة في التجربة نفسها. وبحسب كريدية، فإنّ عددًا كبيرًا من هذه الشركات لم يُبدِ حماسة بسبب ارتفاع الكلفة.
ورأى كريدية أنّ هذه التجربة أضرّت بـ "أوجيرو"، إذ جعلتها عاجزة عن منافسة شركات القطاع الخاص في سرعة الخدمة وتنوّع العروض. فالقطاع الخاص، بحسب قوله، استطاع استقطاب الزبائن عبر حزم تجارية مرنة، بينما بقيت أوجيرو مقيّدة بقرارات مجلس الوزراء، من دون أن تتلقّى التسهيلات اللازمة لتطوير خدماتها أو تعديل أسعارها.
وأشار إلى أنّ الشركات الخاصة لا تستطيع أصلًا تقديم خدماتها للزبائن من دون موافقة وزارة الاتصالات، التي تحتكر صلاحية إقرار الحزم التي تمرّ عبر سنترالات الدولة. وأكد أنّ المراسيم التي أصدرها الجراح تختلف جذريًا عن مناقصة "أوجيرو" الخاصة بتمديد الألياف الضوئية على مستوى لبنان.
أما عن قرار وقف التنفيذ الصادر عن مجلس شورى الدولة، فأوضح كريدية أنّ نقابة موظفي "أوجيرو" هي التي تقدّمت بالطعن، ما أدّى إلى تعليق تنفيذ المرسوم. ثم جاء مرسوم آخر يتيح للشركات مجتمعة التمديد، بهدف تجنّب الحصرية لشركة واحدة. واعتبر أنّ هذا التطوّر مثّل نجاحًا لـ "أوجيرو" في تعطيل الامتياز الأحادي، كما سمح بفتح الباب أمام شركات مرخّصة لتأمين خدمات الإنترنت ضمن صيغة شراكة مع القطاع العام. وأشار إلى أنّ هذه الشركات باتت ملزمة بدفع بدلات مالية إلى وزارة الاتصالات عن كلّ مشترك جديد يدخل في الخدمة.
وأكّد كريدية أنّ "أوجيرو تُحارَب من جميع الأطراف، والحرب عليها لم تتوقف يومًا". وفي ما يتعلّق بالتحقيقات الجارية، شدّد على أنّ القانون لا يمنع الوزير من إجراء تجربة كهذه، بدليل أنّ الحكومة أصدرت مرسومًا لاحقًا يشرّع تمديد الألياف من قبل الشركات ضمن شروط محدّدة، أبرزها الحفاظ على التوازن بين القطاع الخاص و "أوجيرو". لكنه أضاف: "لست مطّلعًا على كلّ خلفيات التحقيقات، ربما هي مرحلة انتهت ويُدفع ثمنها اليوم".
وأعرب عن أسفه لعدم استكمال مشروع الألياف الضوئية على مستوى لبنان نتيجة اندلاع انتفاضة 2019 ثمّ الأزمة المالية، مشيرًا إلى أنّ كلفة التجربة في الحمرا والأشرفية كانت "متواضعة جدًا" مقارنة بما كان سيتطلّبه التمديد على نطاق وطني. وحذّر من أنّ استمرار إبطاء عمل "أوجيرو" مقابل منح القطاع الخاص حرية كبرى سيؤدي إلى مزيد من الخسائر للدولة. وأضاف: "القطاع الخاص يملك القدرة على جذب الزبائن وتوسيع حصّته السوقية، بينما تغيب أي خطة واضحة لمستقبل قطاع الاتصالات في لبنان".