"أنا والبيجر في غرفة واحدة".. اغتيال نصرالله وعلامات الظهور

6121300_1727526889

كتب نجم الهاشم في نداء الوطن:

يبقى اغتيال الأمين العام لـ "حزب الله" حسن نصرالله نقطة تحوّل في الزمن اللبناني والشيعي في شكل خاص. اعتقد كثيرون أنّه عصيّ عن أن تطاله إسرائيل، وأنّه وإن كان تحت الخطر إلا أنّه محصّن وأنّ هالة من ضياء مقدّس تحميه. ولكن الحذر لم يلغِ القدر. في 27 أيلول 2024، حصل ما لم يكن في الحسبان. اغتالت إسرائيل السيد حسن. حتى بعد عام على ذلك الحدث الجلل لا يزال كثيرون من محبيه والمؤمنين بقدراته وبقوة حضوره يعتقدون أنّه لم يمت، وأنه سيظهر ولو بعد حين. وكثيرون اعتبروا أنّ غيابه علامة من علامات الظهور التي تمهّد لظهور الإمام المهدي. وكثيرون أيضًا دخلوا عالم الواقع للعمل على إعادة بناء "الحزب" وقدراته رافعين شعار "إنّا على العهد". بعد عام، تطورات كثيرة حصلت منذ تفجيرات أجهزة البيجر التي هزّت السيد حسن نصرالله في الصميم، وأيقظت فيه هواجس الاختراق الإسرائيلي الكبير. ولكنه لم يحتسب إلى الحدّ الذي يجنبه الاغتيال. 

كان من المُفترَض أن أدخل المستشفى صباح الأربعاء في 18 أيلول 2024. فقد أظهرت صور الرنين المغناطيسي وجود خرّاج كبير والتهاب في الظهر ناتج عن آثار عملية جراحية كنت أجريتها قبل شهرين، الأمر الذي تسبّب بآلام مبرحة وعدم قدرة على المشي، واستدعى تدخّلًا طبّيًا سريًعا لتشخيص نوع البكتيريا التي تسبّبت بهذا الالتهاب، وتحديد طريقة العلاج من خلال إجراء عملية جراحية جديدة لتنظيف مكان الالتهابات، حيث أجريت العملية الجراحية السابقة، أو العلاج بواسطة المضادات الحيوية عبر ضخّها في الدم مباشرة، خوفًا من تداعيات أكبر.

انفجارات غامضة لم تعد غامضة

بعد ظهر الثلثاء، 17 أيلول، بدأت تتوالى معلومات عن أحداث أمنية تحصل في الضاحية الجنوبية. أخبار عن انفجارات غامضة وسقوط قتلى وجرحى، سرعان ما توسّعت لتصبح شاملة كل المناطق التي يسيطر عليها "حزب الله". مع بداية ساعات الليل كانت الصورة بدأت تتّضح وتتحدّد من خلال التأكيد أنّ هذه الانفجارات تحصل في أجهزة الاتصال الداخلية، البيجر، التي زوّد "حزب الله" عناصره ومسؤوليه بها بعد اعتبار أن أجهزة الهواتف الخليوية مصدر معلومات للموساد الإسرائيلي وتحذير السيد حسن نصرالله من استخدامها في مراحل الحرب الأولى مع إسرائيل باعتبارها جواسيس. انتقلت المشاهد المصورة لبعض هذه التفجيرات بسرعة البرق من خلال وسائل التواصل الاجتماعية والإخبارية وامتلأت المستشفيات بالمصابين الذين لم يكن هناك تقديرات أولية لعددهم قبل أن تتسرّب المعلومات حول إصابات بالآلاف، وقبل أن تُعمّم الدعوات إلى كل من يستعملها في "الحزب" للتخلص منها.

نحو العاشرة ليل الثلثاء الأربعاء تبلّغت من المستشفى بقرار تأجيل الدخول والعلاج لأنّه لم يعد هناك مجال لاستقبال أيّ مريض غير المصابين بتفجيرات البيجر. فكل العمليات الطبية والجراحية مؤجّلة حتى إشعار آخر، ويجب الاعتماد على الأدوية المخفّفة للألم فقط حتى يتأمّن سرير في المستشفى.

التفوق الإسرائيلي في حرب المشاغلة

كان "حزب الله" قد دخل حرب مساندة حركة "حماس" في قطاع غزة بعد عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول 2023، أو حرب المشاغلة ضدّ إسرائيل، مقدّرًا أنّه لا يستطيع الدخول في حرب كبرى لا يعرف نتائجها مسبقًا لأنّه لم يكن على اطلاع مسبق على عملية "حماس"، ولم يكن متحسّبًا لها وعرّضته لردود عسكرية إسرائيلية محتملة من دون أن يكون اتخذ إجراءات احترازية، ولأنّه أيضًا لم يكن يقرأ جدّيًا في نوايا حركة "حماس"، وكان يعمل على أساس أن هذه الحرب لن تطول، وأنّ إسرائيل لا تستطيع أن تقاتل إلا لفترة محدودة، وأنّ ما تقوم به لن يتعدّى حرب الأيام القليلة على طريقة ما حصل في حرب تموز 2006. ولذلك ستضطرّ إلى طلب وقف النار وتنتهي الحرب المحدودة إلى انتظار ثقيل لإطلاق الأسرى والجثث في عملية تفاوض طويلة الأجل. ولكنّ حسابات "الحزب" لم تكن دقيقة.

منذ بدأت إسرائيل حرب الردّ على عملية "طوفان الأقصى" تعاطت مع "حزب الله" على الجبهة اللبنانية وكأنّ المعركة معه مؤجّلة حتى إشعار آخر وحتى تحدّد هي التوقيت الذي يناسبها، وبدأت حرب مشاغلة مقابل حرب "الحزب" من خلال عمليات قصف محدودة واغتيالات كشفت مدى اختراقها لبنية الحزب العسكرية والأمنية. وأثبتت أيضًا أنّها تتفوّق على "الحزب" في هذا المجال. فقد ظهر بعد أشهر من بدء هذه الحرب أنّ حسابات "الحزب" كانت خاطئة بحيث لم يعد قادرًا لا على الدخول في حرب كبيرة وشاقة ومكلفة، ولا على الخروج والانسحاب منها. عَجْز "الحزب" وإرباكه ظهرا في إطلالات أمينه العام السيد حسن نصرالله الذي تأخّر كثيرًا قبل أن يظهر في المرة الأولى بعد الحرب، في 3 تشرين الثاني، ليتحدّث عن مجرياتها وعن موقفه منها.

الوقوع في المصيدة

بدا "الحزب" وكأنّه وقع في المِصيَدة من دون أن يترك لنفسه مجالًا لتجنّب هذا القدر. استمرّت هذه المناوشات حتى كانت عملية تفجيرات البيجر التي كانت المؤشّر الأكثر دلالة على تبدّل القرار الإسرائيلي والانتقال من حرب المشاغلة إلى حرب القضاء على قدرات الحزب العسكرية. وفي هذا الجانب لم يكن الحزب أيضًا مقدّرًا لمدى ما تملكه إسرائيل من معلومات وإمكانات.

اعتبارًا من يوم الأربعاء 18 أيلول دخل لبنان مع "حزب الله" في حرب إسرائيلية عنيفة من دون أفق ومن دون قدرات على التصدّي لها. صحّت مخاوف "الحزب" ولكنّه كان عاجزًا عن التعبير عنها، وهو الذي بنى كل طروحاته ودعاياته على أساس أنّه بات يمتلك قوة الردع الاستراتيجي ضد إسرائيل، وأنّه قادر على ضرب أيّ موقع في أي مكان فيها وتدميره، وأنّ "هذا الكيان أوهن من بيت العنكبوت"، وأنّ اليهود سيسرعون إلى الفرار من إسرائيل، عبر البحر سباحة أو بالزوارق أو عبر الطائرات، إذا سُمِح لهم ببقاء المطارات تعمل في اتجاه واحد.

طابق البيجر

الأحد 22 أيلول تلقيت إشعارًا من المستشفى بإمكانية الدخول في اليوم التالي. صباح الإثنين كنت في مكتب الدخول. بعد إجراء المعاملات الإدارية الخاصة تم تحديد الغرفة التي سأكون فيها في الطابق المخصص للعمليات الجراحية. لم تكن تلك صورة هذا المستشفى الجامعي من قبل. ما بعد تفجيرات البيجر لم يعد كما كان قبله. أدخلني فريق العمل المسؤول عن الطابق إلى الغرفة وفيها سريران. في السرير الآخر كان هناك شاب مصاب بتفجير جهاز بيجر. والده ووالدته وأقارب له إلى جانبه في السرير. سلامات وتمنيات بالسلامة ثم صمت. كانت الصورة واضحة ولا تحتاج إلى أسئلة كثيرة لا يمكن طرحها أو الإجابة عليها. وجهه ملفوف بضمادات وكذلك يداه. لا يتكلّم إلا قليلًا لأن هناك صعوبة لديه في الكلام. المشهد كان ينبئ بما هو وضعه وبسبب وجوده هناك.

بحسب توضيحات إدارة المستشفى كان كلّ الطابق يعجّ بمصابي تفجيرات البيجر. نحو مئة تقريبًا. المسألة تجاوزت قدرة المستشفى على التحمّل. ولكن على رغم ذلك عمل المستشفى بكلّ طاقاته حتى يستوعب كلّ الحالات. ولكن كلّ ذلك كان على حساب التدابير الطبية والأمنية الاحترازية المطبّقة في شكل عام. لم تعد هناك مواعيد محددة للزيارات ولا لعدد الزوّار المسموح لهم بالدخول إلى الغرفة أو البقاء إلى جانب المريض، أو النوم معه في الغرفة. فوضى كبيرة حصلت. بعد خمسة أيام خرج عدد من المصابين الذين لم تعد حالاتهم تستدعي بقاءهم، أو الذين نقلهم "الحزب" إلى مستشفيات أخرى أو مراكز صحية تابعة له. كان لا يزال في الطابق نحو 15 مصابًا بالتفجيرات أحدُهم كان إلى جانبي في السرير الآخر. إصابته في العينين واليدين والبطن. لا يهمّ الاسم والهويّة. لا يُعرَف أصلًا إذا كان المصابون أُدخِلوا بأسمائهم الحقيقية أم أُخفِيَت هويَّاتهم لأسباب أمنية، وهذا ما خلق مشكلات كثيرة بين "الحزب" وإدارات عدد من المستشفيات التي استقبلت الجرحى في الطوارئ أو في غرف العمليات.

سريران ووجع واحد وعالمان مختلفان

كان المطلوب بحسب الطبيب المتابع لوضعي الصحي أن أخضع لعملية استخراج عيّنة من المادة التي نتجت عن الالتهابات في الظهر. وعلى أساس هذا الأمر يمكن اتخاذ القرار بالبقاء في المستشفى لتلقّي العلاج، أو العودة إلى المنزل ومتابعة العلاج فيه. بحيث كان من الممكن أن أخرج بعد الظهر. ولكن النتيجة لم تكن كذلك. أظهرت العيّنة أنّ هناك ضرورة حتمية للبقاء في المستشفى والبدء بتلقي المضادات الحيوية في الدم حتى يوم الخميس عندما تظهر نتيجة الزرع وتتحدّد طبيعة البكتيريا المسبّبة للالتهابات ويتحدّد على أساسها أيّ دواء يمكن اعتماده. لم يكن بالإمكان العودة إلى المنزل قبل ذلك التاريخ. وبدأ العلاج فورًا. وعلى أساس التجاوب مع هذا العلاج يمكن اتخاذ قرار بإجراء عملية جراحية ثانية للتسريع في إزالة الالتهاب والقضاء عليه.

لم يكن جاري يعاني كثيرًا من الألم. كان وضعه صار مستقرًّا. فقد البصر كليًا وأُجريَت له عدّة عمليات في العينين واليدين والبطن. ليس مهمًّا اسمه. سنسمّيه وائل. والده الحاج ووالدته الحاجة محجبة. يبدو من خلال المظهر أن الوالد أيضًا في "حزب الله". يحمل حقيبة صغيرة دائمًا ويضع قبعة بغطاء طويل من الأمام. يقال إنّ الحقيبة ربّما يضع فيها سلاحًا فرديًا، وأنّ القبعة هي لعدم تمكين المسيّرات الإسرائيلية من تحديد هوية الشخص المراقَب. كلّهم ينادونه الحاج. وهو صار يناديني أيضًا الحاج. "كيفك يا حاج وانشالله مش عم نزعجك يا حاج، انشالله بخير". ونرد عليه "أهلًا بالحاج سلامة وائل. انشالله بخير".

عالمان مختلفان في غرفة واحدة. ما بيننا وجع ولكن الأسباب مختلفة.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: