كتب علي عيديبي
صُنّفت أزمة لبنان كإحدى أقسى الأزمات على مستوى العالم في التاريخ الحديث، وما زادها تعقيداً عجز النظام حتى عن المبادرة الى الحل. وصولنا لبوديوم المراكز الأولى عالمياً هذا، دفع بالعديد من الناس الى القيام بتحليل سبب الأزمة هذه، فعزى الكثير منهم السبب لفساد الطبقة الحاكمة أو لعدم كفاءتها، فكانت النتيجة الحتمية لذلك مطالبة اللبناني الصادقة بتغيير الوجوه الحاكمة. رغم صحة هذه المعتقدات عن فساد العديد من السياسيين في الطبقة الحاكمة إلا أن المسؤول عن الأزمة الحادة التي وصلنا اليها هو فساد نظام الحكم وعدم جدواه.
لا يحتاج أي إنسان لديه الحد الأدنى من الأهلية العقلية لأكثر من ساعة من الشرح عن نظام الحكم في لبنان حتى يدرك أنه نظام غير سوي. تختلف مدارس الإدارة في العالم حول العديد من النظريات عن الشكل الأنسب للإدارة، ولكنها تُجمع على أن الهرمية تنتهي برأس واحد، سواء كان هذا الرأس شخصاً أو مجلساً أو مجموعةً أو جهةً، وقد وصلت مدارس الإدارة المُشار اليها لهذا الإجماع بعد خبرة تراكمت لآلاف السنين قضت بإرتقاء أو انهيار مجموعات تبدأ من العقد الأسري و تنتهي عند شركات ومؤسسات وحتى دولٍ وإمبراطوريات.
على رغم هذا التراكم التاريخي التلقائي الذي يكاد أن يسلك نفس البيان التطوري بحسب نظرية داروين، يصرّ اللبنانيون على تجربة المجرّب والذي لا يجدي نفعاً بالطبع، إذا أخذنا بعين الاعتبار الخصوصية اللبنانية المتمثّلة بتعدّد الطوائف (والتي بنظري هي خصوصية تبعث على الغنى وليس على التناحر)، فلا بد من إيجاد رأس لهرمية الحكم تبعث الحياة والانتظام في الدولة كما هو منطقي وطبيعي. وهذا الرأس أو المرجع أو الحَكَم يجب أن يكون بعيداً كل البعد عن آفة الطائفية التي تمثّل الشماعة التي تُعلّق عليها جميع مصائب البلد، بناءّ على ذلك ورغم وجوب إلغاء الطائفية السياسية بشكل كامل بنظري، وإذا سلّمنا جدلاً بصعوبة الغوص في نظام جديد للبنان، فإني أرى أن السلطة القضائية هي الحل لمعضلة الحكم في لبنان.
في الحرب العالمية الثانية، وبعد تحرير شارل ديغول لفرنسا تسابق الناس لإخبار ديغول عن صعوبة الأوضاع في فرنسا ومستوى الدمار الذي حصل فيها، فما كان منه إلا أن سأل عن حال القضاء فلما أجابوه بأن القضاء بخير قال: “اذاً فرنسا بخير”. لم يكن سبب هذا، الرياء أو التزلّف لقضاة فرنسا بل كان رأياً مبنياً على حقائٔق وتاريخ مرّ في العتمة الأوروبية والانحدار العلمي والثقافي حتى بزوغ فجر الثورة الفرنسية حيث كانت القوانين والقضاء قلبها النابض. لسنا بعيدين في لبنان عن هذه الفكرة إذ لطالما رفعنا شعار العدل أساس الملك، ولكن كغيرها الكثير من الأفكار كما القوانين والأعراف، فقد أخذنا قشورها وتركنا أو تجاهلنا اللبّ.
ولكن لماذا القضاء بالتحديد من بين جميع السلطات؟ يدور القضاء حول محور العدل واللجوء إلى معيار أوحد في اتخاذ القرارات والأحكام، فمن شأن استقامة القضاء وتمكينه المساواة بين الناس على منهجٍ قانوني واضح إُتفِقَ على تشريعه مسبقاً بناءً على عادات وتصرفات مجتمعية تُعتبر مثلى للصالح العام، بأن تمكين القضاء في لبنان وإعطاءه فعلياً كلمة الفصل سوف يساوي بين اللبنانيين من دون الأخذ بالحسبان طائفتهم أو منطقتهم أو جنسهم أو انتمائهم السياسي. فلننظر حولنا ونرى كم من مشروع أو فرصة أو وظيفة أو أكثر من ذلك أو حتى أقل، فُقدت أو أُهدرت أو حُرمنا منها بسبب أحد أوجه التنوع أو الاختلاف الذي نعيشه في لبنان. من شأن المساواة الحقيقية بين اللبنانيين أن توحد صفوفهم وتجعل ولاءهم للوطن بدل الولاء للطائفة أو الزعيم. نعم، هناك مساواة في لبنان على مبدأ الظلم بالسويّة عدل بالرعية إذ أن ما يُعتبر ظلماً لأحد اللبنانيين في منطقة معينة وفي موقف معين، يُعتبر نصراً أو نجاحاً للبناني آخر في نفس الموقف، وتتبدّل الأقدار في موقف آخر. ولكن هذه المساواة لا تبني وطناً بل تبني إقطاعيات، فالأوطان لا تُبنى إلا بالمساواة الحقيقية. من شأن هذه المساواة أيضاً أن تركز طاقات اللبنانيين في ما هو منتج ومفيد بدلاً من التلهي في اللهاث وراء تأمين أدنى أساسيات الحياة، كما واللهاث لإرضاء الزعيم.
خصائص السلطة القضائية ومقومات أعضائها من النضوج العلمي والثقافي والإجتماعي كما ولجوئهم للعلم مبدأً في إصدار أحكامهم ودخولهم للقضاء عن طريق الإمتحانات النفسية والأكاديمية، كما ومنشأهم وطنياً ومدنياً وبعدهم إلى حد كبير عن الطائفية ( إلا ما لوثتها السياسية والمحسوبية) تجعل هذه السلطة ذات مقومات للقيام بدور الحكم الصالح المرجو منها. هناك مَن يتساءل إذاً لماذا لا تقوم هذه السلطة بواجبها لإنقاذ البلد طالما لديها المقومات لذلك؟ والجواب هو أنه كي تتمكن هذه السلطة من القيام بهذا الدور يجب تمكينها من خلال أولاً: إعطاؤها الإستقلالية الكاملة في إنتخاب رؤسائها وأعضائها.
ثانياً: إدخال التطور العلمي في برامجها واعتماد التكنولوجيا والتحديث الرقمي في جميع أقسامها إبتداءً من الضابطة العدلية حتى النيابية العامة التمييزية مروراً بجميع الغرف والمحاكم.
ثالثاً: التشدّد في قبول القضاة الجدد ( والتشدّد موجود نسبياً أصلاً ) وذلك باعتماد معايير موحّدة لجوهر الأشخاص المخوّلين الدخول إلى هذه السلطة، فلا يُقبل في هذه السلطة إلا نخبة النخبة وخاصة في ما يخص أولئك المؤمنين بالمدنية والمبتعدين عن الطائفية.
رابعاً: إعتماد معايير واضحة في التوظيف وإدارة جميع مرافق الدولة (ولهذا السبب وجد مجلس الخدمة المدنية مثلاً أو امتحانات الدخول إلى الفروع العسكرية أو حتى لدخول المدارس والجامعات الرسمية )، فالقاضي يحكم بناءً على نماذج معتمدة تقضي بمطابقة أي حدث بالمنهج المعتمد أو عدمه.
خامساً: تحديث نظام حوكمة الجسم القضائي وتفعيله،ومن ضمن ذلك إعطاء القاضي مهلة معينة للبت بأي قضية ووضع معايير واضحة بالنسبة لترفيع الدرجات كما وتخفيضها، ووضع مواصفات معينة إن من حيث الدرجات أو السيرة الذاتية لاستلام أي مركز ضمن هذه السلطة.
سادساً: زيادة عدد القضاة والمساعدين القضائيين إذا لزم الأمر بناءً على دراسة واضحة تُعدّ لهذا الشأن.
إضافة إلى ما سبق، يجب إقرار قانون جديد يقضي بعدم التفرقة العنصرية، فيمنع التفرقة على أساس عرقي أو طائفي أو مناطقي أو جنسي ويضع بوضوح تام كيفية التعاطي وإحقاق الحق في هذا الموضوع. وللمقاربة، فإن قانون عدم التفرقة العنصرية في الولايات المتحدة الأميركية كان له اليد الطولى في إنهاء الحرب الأهلية الأميركية وما زال يلعب الدور الاكبر في نزع أي فتيل للفتنة في هذه الدول العظمى.
إن تفعيل دور السلطة القضائية كمرجع أخير للبتّ في جميع القضايا، لا يعني أبداً تسليم السلطة للقضاء، بل إن الشعب يبقى مصدر السلطات حيث يقوم ممثلو الشعب في مجلس النواب بسنّ القوانين ومحاسبة السلطة التنفيذية، ويكون دور القضاء مُشرفاً على عمل مجلس النواب ( من خلال المجلس الدستوري ) كما ومُشرفاً على السلطة التنفيذية وجميع القرارات التي تتخذها.
بُـني نظام الحكم في لبنان على أساس وجود السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهي سلطات مستقلة تراقب بعضها البعض لتسيير أمور البلاد. هذا يعني وبشكل تلقائي، إن أي إختلال في أي من هذه السلطات يؤدي حتماً إلى شلل الحكم كما هو حاصل الآن. إن التذاكي الحاصل على نظام الحكم واختصار السلطات لا يبقي وطناً كما ولا يخدم أي من المتذاكين أنفسهم. المقارنة بين العيش في نظام سوي ومنتظم والعيش في غابة الطائفية هو كالمقارنة بين العيش في شقة هادئة في منطقة تعجّ بالحياة والجمال وبين العيش في قصر في منطقة تفوح منها رائحة قذرة وعلينا الإختيار.