إشكالية الديمقراطيين حول نشر الديمقراطية في المنطقة

113-005206-biden-iraq-conflict-diplomacy_700x400

مع استعداد المنطقة لاستقبال الرئيس الأميركي جو بايدن في منتصف الشهر الحالي، من المفيد العودة الى مسألة إشكالية نظرة الديمقراطيين الى هذه المنطقة وأنظمتها وموقعها في حساباتهم.
فأفضل مَن تكلم عن خلفية النظرة الديمقراطية الأميركية الى دول المنطقة وأنظمتها هو الرئيس الأميركي السابق باراك اوباما الذي كشف أركان هذه النظرة التي لطالما سبّبت للأميركيين صداعاً، إنطلاقاً من القضية الفلسطينية في الخمسينيات وصولاً الى الملف النووي الإيراني في العشرينيات من القرن الحالي.
بالنسبة للديمقراطيين، يقول أوباما في كتابه (الأرض الموعودة ) إن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط وطوال نصف قرن، اكتفت بالتركيز على المحافظة على الاستقرار والحؤول دون توقّف إمدادات أميركا من النفط، ومنع القوى المعادية ( السوفيات أولاً ثم الإيرانيين ) من توسيع نفوذهم.
وبعد هجمات ١١ أيلول، باتت مكافحة الإرهاب من أولويات أميركا. وفي سعي الأميركيين لتحقيق كل من تلك الأهداف، تحالفت واشنطن مع الحكام الدكتاتوريين كما وصفهم أوباما في كتابه، على اعتبار أن لهذا النوع من القادة سلوك يمكن توقّعه، ويميلون الى حفظ الأسرار، وقد استضافوا القواعد الأميركية العسكرية وتعاونوا مع الأميركيين في جهود مكافحة الإرهاب، وعقدوا صفقات مع الشركات الأميركية، فيما كان التعاون الأمني بين أجهزتهم والأجهزة الأميركية على أفضل ما يرام.
لكن وبين الحين والآخر، كانت ترد تقارير من البنتاغون أو من وكالة الإستخبارات المركزية، بحسب أوباما، توصي بإيلاء اهتمام أكبر بحقوق الإنسان والمبادىء الديمقراطية عند التعامل مع شركاء أميركا في الشرق الأوسط.
من مثل هذا الكلام، يمكن رسم الأساس العقائدي للنظرة الديمقراطية الى الأنظمة العربية، والتي تشكّل سياسة الرئيس جو بايدن إمتداداً لها، وإن مع بعض التعديلات وإدخال مرونة أكبر مما كانت عليه سياسة البيت الأبيض مع الرئيس أوباما، خاصةً بعد اندلاع حرب أوكرانيا وتغيّر حسابات واشنطن باتجاه أولويتي محاصرة المحور الروسي – الصيني – الإيراني تمهيداً لتفكيكه ومعالجة أزمة الطاقة العالمية.
وبالعودة الى كتاب الرئيس أوباما، يقول إنه راح يحضّ حكومات الشرق الأوسط على الإصغاء الى أصوات مواطنيها المطالبين بالإصلاح، الأمر الذي يشير الى بدء تكوّن القناعة الديمقراطية في واشنطن انذاك حول خطر تفاقم النقمات الشعبية على الحكومات، ما حدا بالبيت الأبيض الى وضع قضايا حقوق الإنسان على جدول أعمال اجتماعات أوباما مع القادة العرب.
عندما قدّم فريق مكون من سامنتا باور ودنيس روس وغالي سميث وجيريمي واينشتاين مسودة توجيه رئاسي تنص على أن دعم الولايات المتحدة غير المشروط للأنظمة الإستبدادية أضرّ بمساعيها للمحافظة على الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كان هذا الحدث بمثابة نقطة التحوّل النهائية لدى الديمقراطيين لبدء تغيير جذري في السياسة الأميركية سيطبع باقي عهد أوباما و القسم الأول من عهد جو بايدن الحالي : تدخل واشنطن لدى حلفائها لحضّهم على قيام إصلاحات سياسية واقتصادية لتقريب تلك الدول من مبادىء الديمقراطية المفتوحة بحجة تجنيب تلك الدول الخضّات والثورات.
وبحلول منتصف كانون الأول ٢٠١٠ كانت لدى الديمقراطيين استراتيجية متكاملة للتغيير في الشرق الأوسط.
ومع اندلاع ثورة “البوعزيزي” في تونس وسقوط نظام بن علي، أضاف أوباما الى نص خطاب حال الإتحاد جملة واحدة سيتبيّن مع الوقت أنها أطلقت شرارة دعم الديمقراطيين وتشجيعهم لثورات ما سيعرف لاحقاً ب “الربيع العربي”، والجملة التي أُضيفت الى نص الخطاب كانت : “الولايات المتحدة الأميركية تقف الى جانب الشعب التونسي وتدعم التطلعات الديمقراطية لجميع الشعوب”.
الديمقراطيون لا زالوا الى الآن أسرى هذه النظرة الى أنظمة المنطقة، وإن مع الكثير من الليونة التي أملتها تطورات الظروف الدولية بين ٢٠١١ و٢٠٢٢، وقد نجد اليوم رب قائلٍ مع بروز جيل جديد من الحكام العرب كما في دول الخليج، ” إن التجارب الحديثة التي عصفت بالعالم من وباء كورونا الى الأزمة العالمية، والى اليوم أثبتت في مكان ما أن الأنظمة العربية الأقل ديمقراطيةً تكون أحياناً أكثر استقراراً وأمناً وسلامةً من الأنظمة الديمقراطية المفتوحة، بدليل انهيار منظومات العالم الديمقراطي عند أقل حدث أو حرب أو تطور اقتصادي أو تداعيات، ما يُضطر تلك الديمقراطيات الى اللجوء الى الدول الأقل ديمقراطية أو اللاديمقراطية لطلب التعاون والمساعدة والتحالف.
ثمة حقيقة يغفل عنها الديمقراطيون في واشنطن : اذا استحضرنا ما يحدث حالياً في أعرق الديمقراطيات في العالم كالولايات المتحدة والتي تعاني من انتشار السلاح والقتل بين أبناء الشعب ووقوع ضحايا بالآلاف وإعادة النظر في حقوق أساسية مكتسبة للإنسان كالحق بالإجهاض للنساء، وانعدام الإنسجام الأهلي والسلم الداخلي، في ظل انقسامات حادة وأحياناً عدائية بين الجمهوريين والديمقراطيين، وتوالي أزمات معيشية واقتصادية كالتي تعصف حالياً بأوروبا نتيجة الحرب في أوكرانيا، وتبدّل خريطة الإحتياجات الى الطاقة والمصالح الاقتصادية الحيوية، في حين تنعم دول كثيرة في المنطقة بأمن وسلام وازدهار رغم أنها ليست أنظمة ديمقراطية، لا بل تصبح الملاذ الأول لتلك الديمقراطيات لمساعدتها على معالجة مشاكلها وصعوباتها الاقتصادية كما في الطاقة، فلا يمكن لهذه الحقيقة الا أن تستوقف كل خبير ومحلل ومفكر سياسي.
وبالعودة الى الرئيس أوباما ومعه الديمقراطيون، فقد بنوا سياستهم تجاه المنطقة على معادلة مفادها أن نجاح السياسة الأميركية وحماية مصالح واشنطن لم يعد ممكناً مرورها عبر أنظمة تلفظها شعوبها، ما يؤدي الى ازدياد كراهية تلك الشعوب لأميركا، وبالتالي يستوجب دعم الشعوب التواقة الى الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان.
هذه المعادلة نجحت الى حين كما في مصر بمراهنة أوباما على تنظيم الأخوان المسلمين، وفي تونس من خلال حركة المستقلّين والأحرار والمنفيين السياسيين أيام حكم بن علي، وعلى رأسهم راشد الغنوشي والإسلام السياسي.
والجدير ذكره هنا أن وزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلينتون لم تكن متحمسة لسلوك هذا النهج الجديد لإدارة أوباما، وقد أبدت تحفظات بحكم خبرتها السياسية الكبيرة في شؤون الشرق الأوسط إزاء دعم إدارة أوباما لتنحي الرئيس حسني مبارك، ويذكر أوباما في كتابه حول تلك الحقبة أنه إستاء من موقف وزير خارجيته كلينتون بسبب مقابلة صحافية على هامش مؤتمر أمني في ميونيخ حين بذلت جهداً كبيراً للتحذير من مخاطر أي انتقال سريع للسلطة في مصر، وقد اتصل بها موبخاً كما ذكر.
فما حصل هو أن محاولات التغيير السياسي من داخل المجتمعات فشلت لأسباب كثيرة منها عدم جهوزية الشعوب لتقبّل فكرة التحرّر وممارستها، والأهم لمراهنة واشنطن على أفرقاء لم ينالوا إجماع شعوب بلدانهم.
وقد تزامن فشل ما سمي “بالربيع العربي” مع بروز قيادات عربية، وبخاصة خليجية شابة، تسلمت زمام القيادة في بلدانها ( المملكة العربية السعودية – دولة الإمارات – دولة قطر ….) وأطلقت سياسات حداثية وتطويرية التفت على تصورات الديمقراطيين الليبراليين وسياساتهم في واشنطن، واستعادة المبادرة وإعادة فكرة الأنظمة “الدولتية” في مواجهة المنطق الثوري أو الأنظمة الثورية.
فأبرز المتضرّرين، بالإضافة الى الديمقراطيين في واشنطن، إيران وإسرائيل، الأولى لأن تصديرها لثورتها وجدَ في الفوضى والثورات أفضل بيئة حاضنة ومساعدة لبسط عقيدتها وحرسها الثوري، وإسرائيل لأن أي إضعاف للدول العربية وزرع الفوضى داخلها وعدم استقرار الأوضاع فيها يزيد من قوتها وتفوقها في المنطقة.
والسؤال يُطرح : لو كانت الدول العربية المستهدفة بالربيع العربي ديمقراطية ليبرالية بالمفهوم الأميركي ألمْ تكن مشهدية المنطقة والعالم العربي والخليجي خاصة في مكان آخر اليوم؟
ما حصل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في السنوات العشر الماضية لم يكن نزهةً ولم يكن بريء الأهداف والحسابات، ومحنة الديمقراطيين والليبراليين الأميركيين والغربيين عموماً هي أنهم لا زالوا يجهلون حقائق المنطقة وتكوّن دولها وعقيدة شعوبها ومعتقداتها المستقاة من موروثات التاريخ والجغرافيا والدين والعادات والتقاليد التراثية، وها هي النتيجة بأبهى تجلياتها تتظهر بعودة التركيز الأميركي الديمقراطي على المنطقة ودول الخليج ومصر للتعاون والتحالف، بما ينعي كلياً كل ما خُطط له في واشنطن منذ عقدين من الزمن.
الديمقراطيون وقعوا في فخ مأزقهم الذي صنعوه منذ عهد أوباما : فلا هم نجحوا في تغيير أنظمة المنطقة بالاتجاه الذي أرادوه، ولا هم حافظوا على ثقة حكام المنطقة وبالأخص العالم العربي، وتحديداً دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، وقد كان كلام الشيخ محمد بن زايد لإوباما بليغاً ومنبئاً بمستقبل العلاقات بين الحلفاء التاريخيين لأميركا في المنطقة حين قال له : “هذا يدل على أن الولايات المتحدة ليست شريكاً يمكننا الوثوق به على المدى الطويل” .
ختاماً، تستذكرني جملة للرئيس أوباما باتت تلخّص مشهدية محنة الديمقراطيين مع دول المنطقة حين قال “على عكس ما يعتقده الكثيرون في العالم العربي، الولايات المتحدة ليست محرك دمى كبيراً يتلاعب بخيوط البلدان وفقاً لأهوائه ….”
إشكالية من بين سواها تُثقل زيارة الرئيس بايدن الى الخليج، فضلاً عن الملفات الضخمة والمعقدة.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: