أما وقد باتت مسوّدة الإتفاق النووي قاب قوسين أو أدنى من التوقيع، فإن طهران أمام ساعة الحقيقة لجهة انخراطها في الإتفاق وتوقيعه أو العدول عن التوقيع وتحمّل التبعات الدولية لذلك.
أغلب الظن أن إيران ستوقّع الإتفاق لكن وفق توقيت ستسعى أن يضمن لها إستمرارية سريان الإتفاق وعدم وصول أكثرية جمهورية تنقضه وتنسحب منه مجدداً.
في هذا السياق، نتوقف عند الآتي :
- أولاً : ثمة نوع من رهان لدى إيران على احتفاظ الديمقراطيين بأكثريتهم في الإنتخابات النصفية للكونغرس في غرفتيه النواب والشيوخ، الأمر الذي سيُبعد عن طهران القلق من انسحاب مستقبلي للولايات المتحدة من الإتفاق اذا وُقّع، وقد تضافرت مؤشرات عدة تصبّ لصالح هذا النوع من الرهان، أبرزها مؤشرين هما إرتفاع شعبية الرئيس الأميركي جو بايدن بعد مرحلة انحدار قياسية، لا سيما بعد مقتل أيمن الظواهري وتحدّي الصين إثر زيارة نانسي بيلوسي، وصولاً الى استمرار مواجهة واشنطن الديمقراطية لروسيا في أوكرانيا، أما المؤشر الثاني فهو عملية دهم منزل الرئيس السابق دونالد ترامب واتهامه بإخفاء وثائق رسمية تتعلّق بالأمن القومي الأميركي، وبالتالي إغراق الرجل القوي للجمهوريين في ملفات قضائية وملاحقات قانونية تضعف قدرته وأهليته على استمرار تزعم الجناح الجمهوري الأكثري داخل الحزب، ما قد يؤثر سلباً و بصورة مباشرة على حظوظ فوز الجمهوريين في الإنتخابات النصفية المقبلة، وبالتالي ضمان انتصار الديمقراطيين بالغالبية، كما ضمان استمرار الاتفاق ليس للسنتين المتبقيتين من ولاية الرئيس بايدن بل لولاية ديمقراطية جديدة حتى العام 2028.
- ثانياً : إنطلاقاً من الحسابات أعلاه، ليس من المستبعد أن لا توقّع إيران على الإتفاق النووي قبل الإستحقاق النصفي في الولايات المتحدة الأميركية في 8 تشرين الثاني المقبل كي تضمن عدم تورطها في إتفاق يمكن للطرف الأميركي مجدداً الإنسحاب منه اذا تغيّرت الإدارة في واشنطن بين الديمقراطيين والجمهوريين،فإذا فاز الديمقراطيون إطمأنت طهران ووقّعت الإتفاق، والا فلا تكون قد ورّطت نفسها في اتفاق جديد على غرار السابق لا يُكتب له عمر.ولذلك وافقت على سحب شرط ضمان إدارة بايدن لمستقبل الإتفاق وعدم إقدام إدارة أميركية لاحقة على الإنسحاب منه، خصوصاً وأن الجانب الأميركي رفض إعطاء الإيرانيين أية ضمانات بهذا الخصوص.
- ثالثاً : في المقابل، يجدر التوقّف ملياً عند تراجع إيران عن شرطها الثاني بإزالة الحرس الثوري عن لائحة الإرهاب، ذاك التراجع الذي شكّل تطوراً مثيراً جداً فات الكثير من المراقبين والمتابعين التوقّف عنده رغم أهمية ما يؤشر اليه هذا التراجع عن مثل هذا الشرط، لأن إقدام طهران على التنازل عن هذا الشرط يعني إبقاء الحرس الثوري ملاحقاً أميركياً وأوروبياً، وبالتالي زوال الحماية القانونية التي كان بالإمكان أن يتمتع بها لو رُفع عن اللائحة المذكورة، ما يعني وجود توجّه لدى رأس السلطة في إيران المتمثّلة بالمرشد علي خامنئي وفريقه بالتخلي عن الحرس الثوري، وعن حمايته الديبلوماسية والسياسية والقانونية كونه جزء من النظام الإيراني، لحساب حماية النظام لا بل التخلّي عن الهيكلية الثورية لحساب الهيكلية الدولتية ( أي هيكلية الدولة الوطنية وليس الكيان الثوري ).فهل في التخلّي عن الحرس الثوري مؤشر بداية نهاية دور الميليشيات الإيرانية في المنطقة العربية، من الحشد الشعبي في العراق الى حزب الله في لبنان ؟ لطالما كنا نقول إنه في لحظة حفظ النظام الإيراني لرأسه يمكنه التخلي عن أقرب الناس اليه، وحفظ رأسه حالياً بات يمر عبر إبرام إتفاق نووي مع الأميركيين مليىء بالحوافز المالية والديبلوماسية والتجارية خصوصاً وأن هذا الإتفاق قد يتطور في حال فاز الديمقراطيون في الإنتخابات النصفية، وضمنوا تجديد ولاية الرئيس الديمقراطي في البيت الأبيض لأبعد من السنتين المتبقيتين من ولاية بايدن، الى معاهدة ثنائية إنفاذاً لواحد من الأهداف الاستراتيجية الكبرى للبيت الأبيض بسحب إيران من محور الصين – روسيا، وهذا هدف استراتيجي كبير تعمل عليه وكالة الأمن القومي منذ وصول بايدن الى البيت الأبيض.والملاحظ أن تراجع إيران عن شرط رفع الحظر عن الحرس الثوري تزامن مع إنطلاق الإتهامات خلال الأيام الأخيرة من قبل واشنطن ضد الحرس الثوري خول محاولة اغتيال مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون ووزير خارجية إدارة الرئيس دونالد ترامب مايك بومبيو صاحب المبادئ الإثنتي عشر للعام 2018 في سياسة "العصا الغليظة" ضد إيران أثناء حكم ترامب،وذلك بعد انسحاب الأخير من اتفاق 2015، ما يشي برفع الغطاء السياسي الإيراني عن الحرس الثوري الذي سيبقى منظمة إرهابية ومعها الميليشيات كافة، مع ما يعنيه ذلك من انكشاف للحرس الثوري وميليشياته الإقليمية أمام أية عقوبات أو تصفيات.
- رابعاً : في خط موازٍ مع الحسابات الإيرانية، ثمة توجه غربي أي أميركي- أوروبي لعدم التهاون مع إيران في انتظارها طويلاً للتوقيع إن هي إنتهجت مسار انتظار الإنتخابات النصفية الأميركية، وفي هذا السياق بإمكان الغربيين إذا أرادوا، ومن منطلق الضغط على إيران لتوقيع الإتفاق بأسرع وقت، خصوصاً وأن ثمة ملفاً ضاغطاً على إيران هو ملف العلاقة مع وكالة الطاقة الذرية في ضوء تقريرها الأخير الذي فضح تلاعب إيران مع التفتيش على ثلاثة مواقع نووية تريدها طهران خارج نطاق التفتيش.وكانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد ندّدت منذ فترة بقرار إيران "إغلاق 27 كاميرا" لمراقبة أنشطتها النووية، محذرةً من "ضربة قاضية" للمحادثات حول هذا الملف الشائك في فيينا في حينه، في حال إستمر التعطيل.يومها صرح المدير العام للوكالة رفائيل غروسي خلال مؤتمر صحافي في مقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا، أن هذا الإجراء "يشكل بطبيعة الحال تحدياً كبيراً لقدرتنا على مواصلة العمل هناك" كما قال.وكانت إيران قد أقدمت على وقف العمل بكاميرتَين على الأقل تابعتين للوكالة الدولية للطاقة الذرية لمراقبة نشاطاتها النووية، بعد تبنّي مجلس محافظي الوكالة قراراً ينتقدها على عدم تعاونها آنذاك.وكانت وزارة الخارجية الإيرانية قد إستهجنت في بيان لها " المصادقة على مشروع القرار المقترح من قبل أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا في اجتماع (...) لمجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، وإعتبرت ذلك "إجراء سياسياً خاطئاً وغير بناء".هذه الإنتقادات الأولى التي كانت قد وجّهت لإيران منذ شهر حزيران 2020 ووافق عليها أخيراً 30 من أعضاء مجلس حكام الوكالة، ولم تصوت ضدها سوى روسيا والصين، مع امتناع 3 بلدان هي: الهند، وباكستان، وليبيا.وجاء القرار بعدما عبّرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تتخذ من فيينا مقراً لها عن قلقها بشأن آثار يورانيوم مخصّب عُثر عليها سابقاً في ثلاثة مواقع لم تعلن طهران وجود أنشطة نووية فيها.فلا شيء يمكن أن يمنع الأميركيين والفرنسيين والألمان والبريطانيين من الضغط على طهران من خلال التلويح بإحياء هذا الملف إن هي رفضت التوقيع على الإتفاق أو ماطلت في التوقيع عليه أو طرحت شروطاً جديدةً، خصوصاً وأن طهران كانت عند استلامها نص الإتفاق النهائي من جوزف بوريل قد وضعت شرطاً أخيراً يتصل بعلاقتها مع الوكالة تشترط فيه عدم كشف الوكالة على ثلاثة مواقع سرية لا تريد طهران التعاون بشأنها مع الوكالة، لكن بوريل كان جازماً في رده على الشرط الإيراني بأن النص حصيلة شاملة لكل ما تمت مناقشته على مدار 17 شهراً، وبالتالي لم يعد بالإمكان إدخال أي تعديل عليه،فيبقى بإمكان الدول الأوروبية الثلاثة دعوة الوكالة للإنعقاد على أساس أن إيران المنتسبة للوكالة والموقِعة على معاهدة منع إنتشار السلاح النووي تخالف أحكام المعاهدة ونظام الوكالة، ما يتطلب إحالة ملفها على مجلس الأمن الدولي لاتخاذ إجراءات صارمة في حقها وعقوبات تحت الفصل السابع.
ساعة الحقيقة دقت في موضوع مصير التوقيع على الإتفاق من عدمه، فهل تذهب إيران نحو التوقيع تحت رعاية ولاية ديمقراطية صلبة ومتجددة في واشنطن لتصل الى التطبيع مع إسرائيل في نهاية المطاف؟ وهل تخاطر بخسارة الصين وروسيا والقبول بالإرتماء في أحضان الغرب لقاء منافع إقتصادية وتجارية ومالية؟
الأيام المقبلة سوف تحمل معها شيئاً من الإجابات ...