الجناح العسكري.. والجناح السياسي

286843

كتب شارل جبور في نداء الوطن:

يجب التأكيد بداية أن "حزب اللّه" هو كيان واحد، عسكريّ وسياسيّ، يخضع قراره لإيران، ولا سيّما في القضايا الاستراتيجية المرتبطة بدوره ضمن المشروع الإيراني. فلا فصل بين جناحه العسكري وجناحه السياسي، بل يعملان في سياق تكامليّ تحقيقًا لأهداف "الحزب".

كما يجب التأكيد أن الجناح العسكري هو الأساس، لأن وظيفة "حزب اللّه" عسكرية، وأهدافه عسكرية، ومشروعه لا يتحقق إلّا عن طريق السلاح الذي يشكّل علّة وجوده. ورفضه المستمرّ التخلّي عن السلاح دليل على أنه لا يستطيع العيش من دون الأداة التي تجسِّد مشروعه. أمّا الجناح السياسي فليس سوى الناطق باسم "الحزب"، والمروِّج لأفكاره، والمدافع عن مشروعه المسلّح.

ويجب الإقرار أيضًا أنه نشأت عن الحالة العسكرية حالة سياسية أصبح لها تمثيلها الوزاري والنيابي والبلدي والاختياري، وهذا عدا عن تغلغلها في الدولة العميقة، الأمر الذي يستدعي التمييز، ربطًا بالضرورات، بين الجناحين العسكري والسياسي، فضلًا عن أن المشكلة الأساسية متأتية من بنيته العسكرية والأمنية التي كان يجب حلّها منذ مطلع تسعينات القرن الماضي.

كما يجب الإقرار أن قوّته السياسيّة مستمدّة من قوّته العسكرية، وأن حيثيته الشعبية تراكمت بفعل مشروعه المسلّح، وأن تجريده من السلاح يؤدّي إلى إضعافه سياسيًا وشعبيًا، وأن العقبة الرئيسية أمام قيام دولة فعلية سببها سلاحه، إذ لا يمكن أن تقوم دولة بجيشين، وهذا ما أثبتته الوقائع أقلّه منذ عام 2005، أي منذ خروج قوّة الاحتلال الأسدية من لبنان.

ومن حسن حظ اللبنانيين أن ورقة "حزب اللّه" العسكرية طُويت نهائيًا بقرار دوليّ، ولولا هذا التطوّر الكبير، لكان يستحيل على اللبنانيين التخلُّص من حالة راكمت قوّتها العسكرية في ظلّ تغييب دور الدولة اللبنانية، والرعاية الأسدية والخامنئية، والتخلّي الدولي عن لبنان. وحتى إسرائيل تتحمّل مسؤولية الاعتراف بهذه الحالة عن طريق هندسة قواعد اشتباك معها منذ تفاهم نيسان 1996.

وعلى الرغم من الخطاب المتكرِّر لمسؤولي "حزب اللّه" حول التمسُّك بالسلاح، فإن جناحه العسكري جمّد عمليّاته منذ توقيعه وثيقة الاستسلام في 27 تشرين الثاني 2024، في محاولة لتجنُب حرب جديدة تقضي عليه نهائيًا. وهذا ما يفسِّر امتناعه عن الردّ على الضربات الإسرائيلية التي تستهدفه، ظنًا منه أنها ستبقى ضمن هذه الحدود، وأنه قد تحصل في وقت معيّن تبدّلات أو تسويات تنقذه من الدمار الكامل. غير أن مشكلته تكمن في عجزه عن قراءة المرحلة الجديدة، إذ بات القرار الدولي واضحًا باستمرار الحرب حتى القضاء التام، وللمرة الأخيرة، على تنظيمه العسكريّ.

ولا داعي لقلق بعض اللبنانيين من تفويت فرصة إنهاء سلاح "حزب اللّه" بسبب تباطؤ السلطة في تنفيذ دستورها وقراراتها، وانضمام هذه الفرصة إلى الفرص الضائعة قبلها، لأن قرار نزع السلاح هو قرار أميركي وإسرائيليّ، فواشنطن تعمل على إنهاء الصراع في الشرق الأوسط وإعادة إيران إلى داخل حدودها، وتل أبيب لن تسمح لطهران بالبقاء داخل كيانها وعلى حدودها.

ولا حاجة للتذكير أنه لو التزم المجتمع الدولي رعاية اتفاق الطائف كما يجب، لما تحوّل الجناح العسكري لـ "حزب اللّه" إلى مشكلة لبنانية وإقليمية. لكن هذا المجتمع، وبعد خمسة وثلاثين عامًا من الخطأ، بدأ تصحيحه عبر العمل على شطب هذا الجناح من الوجود. ومن ثمَّ، لا خوف على هذا الصعيد، فالجناح العسكري لن يكون بعد اليوم جزءًا من حاضر لبنان ومستقبله.

وإذا كان المجتمع الدولي قد تولّى مهمّة إنهاء الجناح العسكري لـ "حزب اللّه"، وبدأ العد العكسيّ لذلك، فإن الجناح السياسي يبقى من مسؤولية الدولة والقوى السياسية، ولا يُفترض التقليل من خطورته على الرغم من أن نزع سلاحه يشكّل إضعافًا كبيرًا له. ولا خوف من أيديولوجيا تفتقد إلى أدوات تطبيقها، خصوصًا أن كل مشروع "حزب اللّه" قائم على السلاح، ولم يقدِّم أيّ نموذج يمكن أن يستقطب الناس، بل مثل آخر مظاهر "الهتلرية" في المنطقة، وفقدانه السلاح سيؤدي إلى تراجع وزنه الشعبي ويفتح الباب أمام صعود شخصيات شيعية وطنية تعبِّر عن عمق الانتماء اللبناني للطائفة.

وإذا كانت الأولوية التي لا تعلو عليها أولوية اليوم تتمثل في تفكيك الجناح العسكري، فلا يجوز إطلاقًا التقليل من خطورة الجناح السياسي، الذي يستحيل أن يندمج تحت سقف دستور ودولة، إلّا في حالة واحدة وهي سقوط النظام الإيراني. وبالتالي، يجب ألا يتوهّم أحد أن نزع سلاح "حزب اللّه" هو نهاية الأزمات اللبنانية، بل إن المواجهة معه ستستمرّ، مع فارق أساسيّ هو فقدانه عموده الفقري المتمثل بالسلاح. وهنا تقع المسؤولية الكبرى على الدولة في عدم التهاون مع أي طروحات انقلابية على النصوص المرجعية أو ترويج للعنف، كما تقع على القوى السياسية مسؤولية التعاون والتحالف والشراكة مع الشخصيات التي تشبهها في الوسط الشيعي من أجل تحرير الطائفة من قبضة إيران وإعادتها إلى قلب لبنان والدولة.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: