كتب عيسى يحيى في صحيفة "نداء الوطن":
تدار شؤون بعض البلدات البقاعية منذ سنوات بعقلية الصفقات والمصالح لا بعقلية الدولة والإنماء، وتُرسم المشاريع في الغرف المغلقة، ويحدد نصيب كل طرف قبل أن يُسأل أبناء المنطقة عن رأيهم أو مصلحتهم. هناك من يتعامل مع الأرض والناس كما لو أنهما موردان في ميزان النفوذ، لا كبيئة تُحمى أو كمجتمع يصان، وهكذا كلما خمد ملف عاد ليفتح من جديد، لكن بثمن أكبر وضرر أوسع.
تتمدد المرامل والكسارات والمقالع في جرود السلسلة الشرقية كالنار في الهشيم، تعمل بلا حسيب أو رقيب، خارج أي إطار قانوني أو بيئي. لا تراخيص تُطلب ولا رقابة تمارس، وكأن الجبال تنهب على مرأى من الجميع. أصحاب الأراضي الخاصة استغلوا الفوضى لتحويل ملكياتهم إلى مشاريع استثمارية تدر أرباحًا طائلة، فيما البيئة تستنزف، والتربة تدمر، والهواء يلوث بالغبار والرمول، والمياه الجوفية تهرب إلى غير مساربها، والطرقات المؤدية إلى القرى والبلدات، أصبحت بفعل مرور الشاحنات، لا تصلح لمرور"الدواب"، من دون أن يرف لأصحاب المرامل جفن. مشهد يومي بات مألوفًا في منطقة يفترض أن تكون محمية طبيعية، فإذا بها تتحول إلى ساحة مفتوحة للكسارات والمرامل والمصالح المتشابكة.
انكفأت المجموعات المسلحة عن جرود السلسلة الشرقية بعد انتهاء الحرب السورية، وعاد "حزب الله" إلى قواعده، بعد أن كانت تلك المناطق ساحة صراع واشتباكات، لتنفض تلك الجرود غبار الحرب عنها أواخر العام 2017، وتبدأ نشر غبار الرمول، حيث شهدت طفرة غير مسبوقة في انتشار المرامل والكسارات. تأكل من الجبال كما يأكل الذئب فريسته، من دون أي رقابة، وبغطاء سياسي وأمني، كون أصحاب تلك الكسارات والمرامل يدفعون متوجبات شهرية للبعض، كي تمرّ الشاحنات بسلام وصولًا إليهم، وعلى الطرقات الرئيسية، ولغض النظر عن التراخيص التي يفترض أن تكون في حوزتهم، ورغم تسطير محاضر وبلاغات بحق عدد منهم بقي العمل على الوتيرة ذاتها، ومن المتوقع أن يتزايد مع بدء إعادة الإعمار، كون المنطقة هنا هي المصدر الأول للرمول والصخور إلى مختلف المناطق اللبنانية.
لم يكن ملف الكسارات والمرامل يومًا سوى مرآة تعكس ضعف الدولة وتواطئها الممنهج مع أصحاب النفوذ. فالفوضى التي تضرب هذا القطاع ليست وليدة الصدفة، بل نتيجة سنوات من التسويات والسكوت المتعمد عن مخالفات جسيمة دمرت الجبال ولوثت المياه وأرهقت القرى المجاورة بالغبار والضجيج والأذى. ووفق تقارير صادرة عن وزارة البيئة بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2023، تقدر خسائر الخزينة اللبنانية بأكثر من 2.4 مليار دولار نتيجة الرسوم غير المحصلة الناجمة عن الكسارات والمرامل غير الشرعية، التي يتجاوز عددها 1230 تعمل خارج القانون. ورغم فداحة هذه الأرقام تعاملت السلطة مع الملف بعقلية التعمية لا الحسم، وعليه تبدو الحكومة الحالية أمام اختبار حقيقي لفتح الملف ووضع حد لتلك الفوضى ونهب البيئة.
إلى ذلك، لم يكن عابرًا المؤتمر الصحافي الذي كشف فيه نائب "حزب الله" علي فياض في حزيران عام 2018 عن اقتراح قانون لتنظيم قطاع المقالع والكسارات وتجميعها في السلسلة الشرقية، في ظل انعدام تطبيق المرسوم القديم الذي ينظم القطاع والصادر عام 2002، وعدم التزام العديد من الذين استثمروا الأراضي في المناطق المحدّدة بالمرسوم وتلك غير المحددة بالمرسوم. وبحسب اقتراح فياض فإن المواقع المقترحة في المخطط التوجيهي الذي يتضمّنه الاقتراح، هي المناطق الحدودية كالطفيل، بريتال، القاع، رأس بعلبك، عرسال، عين بورضاي، وقوسايا وعيتا الفخار في البقاع الغربي.
وفي وقت لا يزال اقتراح فياض ينتظر التشريع وصدور المراسيم التنظيمية، تشير مصادر مطلعة إلى أنّ عددًا من المتموّلين المحسوبين على جهة معينة قد اشتروا عقارات بمساحات خيالية في تلك المناطق وبأبخس الأثمان، كذلك ومنذ سنوات اشترى أحد نواب المنطقة السابقين مئات الدونمات من الأراضي بين الطفيل وبريتال، وكأنّ هناك غاية من تجميع تلك المرامل في هذه المنطقة التي كانت خلال الحرب ممرًا إلى الداخل السوري وتشهد على معظم عمليات التهريب، وعليه، هناك مصلحة لمستفيدين من تشريع المرامل والكسارات في المنطقة.
وتضيف المصادر أنّ الاقتراح الذي يحدد المنطقة ضمن المخطط التوجيهي لتنظيم عمل هذا القطاع، واستحداث عشرات المرامل في السلسلة الشرقية، يخالف كل الشروط البيئية اللازمة وينتهك المواصفات الهندسية والفنية كما يعاني من غياب الرقابة، بسبب عدم اعتماد معيار التراخيص اللازمة لكون هذه الكسارات ستعمل وفق حصص مادية. وهذا الأمر يستدعي تحرك وزارة الداخلية، ووزراة البيئة بعدما سبق لوزير البيئة السابق فادي جريصاتي أن زار المنطقة واطّلع على عمل تلك المرامل ولكن من دون اتخاذ أي إجراء.
المطمر إلى العمل
ولأن السلسلة الشرقية لا يكفيها ما تعانيه من المرامل، وبعد أشهر من الجمود، بدأ المطمر المشروع لم يولد فجأة بل جاء نتيجة توافقات سياسية وانتخابية، حيث تم شراء الأراضي من متنفعين ومحسوبين، ووضع اليد على أراض مشاع لتسهيل تنفيذ الطريق المؤدي إلى المطمر. ومنذ اللحظة الأولى كان الرفض الشعبي والعام حاضرًا بقوة، حيث عبر الأهالي والمجتمع المدني عن رفضهم لما يهدد صحتهم وبيئتهم. غير أن اللامبالاة والمصالح الخاصة تفوقت على مصالح الناس، وعلى المصلحة العامة للقرى والبلدات التي يقع المطمر ضمن نطاقها وما يمكن أن يجلبه لها.
وأكدت مصادر متابعة للملف أن قرارًا صدر من قبل القضاء اللبناني يمنع حرق النفايات في بلدة بريتال وجوارها، فتحولت معالجة النفايات إلى الطمر، وهي الخطوة التي تشرّع المطمر بطريقة سلسة ومن دون أي ضجيج، كون هناك قرار قضائي يمنع الحرق. وأشارت المصادر إلى أن أيادٍ خفية تلعب وراء الكواليس لتجعل التوجه نحو المطمر أمرًا واقعًا يرضى به الناس، ويمرّ بأخف المعارضة والمنع.
وتسأل المصادر عن الهدف من توجه بعض الأحزاب إلى جعل جرود السلسلة الشرقية تقضمها المرامل، ويسعى نائب "حزب الله" إلى تشريعها، وتاليًا إقامة المطمر، فهل أصبحت أرواح الناس لدى تلك الجهات رخيصة إلى هذا الحد؟ ولماذا الإصرار على تلك المنطقة تحديدًا؟ هل الأراضي التي اشتريت بأثمان بخسة قد لاقت رواجًا لبيعها بأضعاف وتحقيق ثروات؟ خاتمة بأن الزمن لن يرحم كل من يتواطأ على بلدات "الشرقي" وسكانها أحزابًا كانوا أم أشخاص.