لا يشعر المسيحيون في لبنان أنهم بخير، فحضورهم يتآكل تدريجياً ديموغرافياً ومؤسساتياً، والمؤسف أن مقارباتهم للمخطط المشبوه الذي يحصل ليست موحّدة، وربما يشكّل هذا الأمر ثغرة أساسية في مقاومتهم له، وبات الإعتماد على نخبة من المسؤولين المسيحيين تبدأ من البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي مروراً ببعض الأحزاب السيادية، وصولاً إلى بعض الجماعات والشخصيات المستقلة والناشطة.
لكن خطورة الموضوع، تتطلب تضافر جهود هذه القوى في نضال جماعي وليس إفرادياً، لأن المواقع المسيحية عموماً والمارونية خصوصاً الأساسية في الدولة تتآكل عبر تفريغها بشكل ممنهج، وحتماً المشروع الأخطر الذي أدى إلى هذا الوضع هو نهج “حزب الله” الذي يعتمد فائض القوة بالسلاح وخرق الدستور وفرض الفراغ في الاستحقاقات الدستورية ليحقق أهدافه المبيّتة التي تؤدي إلى عدم المساواة بين المكوّنات الطائفية اللبنانية، بحيث بات علينا تسمية الأمور باسمائها: هناك رئيس مجلس نواب شيعي إنتخب بـ65 صوتاً، ورئيس حكومة تصريف اعمال سنيّ يدير السلطة التنفيذية بالحد الأدنى، أما موقع رئاسة الجمهورية الماروني فهو شاغر منذ عام كامل! وهذا الأمر استتبع انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان الماروني من دون تعيين حاكماً أصيلاً مارونياً بعده، وها هي مدة خدمة قائد الجيش العماد جوزف عون توشك على نهايتها، والجدل مستعرّ، علماً أن الأصول والظروف تقتضي في غياب رئيس الجمهورية هو التمديد للعماد جوزف عون الذي نجح في إدارة المؤسسة إلى حد كبير. قد نفهم أن لا يكون الثنائي الشيعي متحمّساً للتمديد له، لأنه يستفيد من إفراغ مؤسسات الدولة ليكون متحكماً أكثر وأكثر بالقرارات العامة ، فتكون المؤسسة العسكرية المذهبية هي البديلة عن الجيش، لكن ما لا يفهمه البطريرك الراعي والقوى المسيحية السيادية كـ”القوات اللبنانية” و”الكتائب” هو استعداد رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل لحرق البلد أو القبول بتعيين أي قائد جيش يرضى عنه “حزب الله” خدمة لمشروعه الخاص. علماً أنه طبل آذان اللبنانيّين برفضه تسيير أعمال السلطة التنفيذية في زمن الشغور، وبات الآن على استعداد كامل للمشاركة في جلسة حكومية تقرّ سلّة تعيينات: قائد جيش، ورئيس أركان ومجلس عسكري. وحتماً كل شيء بثمنه، والثمن لا بد من أن يقبضه من “الحزب”.
لكن البطريرك الراعي العائد من الفاتيكان والمدعوم منه في ملف قيادة الجيش، كان في المرصاد في عظة يوم الأحد عندما أعلن بوضوح:”من المعيب أن نسمع كلاماً عن إسقاط قائد الجيش في أدق مرحلة من تاريخ لبنان”. وبذلك، يعمل الراعي على منع إسقاط التمديد لعون معتبراً إنه امعان في تفريغ المواقع المارونية لمصلحة مجهول، وهذه رسالة خاصة لباسيل الذي لم يكفّ عن المقامرة بأوضاع المسيحيين ومواقعهم، محاولاً بيع تعيين قائد الجيش للثنائي الشيعي أو تمرير تعيين الأعلى رتبة مقابل مكاسب خاصة من هذا الثنائي.
وتقاطع موقف الراعي مع جهود “القوات اللبنانية” التي اقترحت قانون للبرلمان لتمديد سن التقاعد لرتبة “عماد” في الجيش، وهي الممنوحة حصراً لقائد الجيش، عاماً إضافياً، بما يمكنه من البقاء في قيادة الجيش لمدة عام. وبذلك وضعت التمديد في مصاف الأمن القومي في لحظة حرب وانهيار وشغور، وهذا ما يرضي الرأي العام اللبناني عموما والمسيحي خصوصا ًالذي يريد الحفاظ على آخر أعمدة الاستقرار. ولا بد من التأكيد بأن العماد عون يحظى برضى عواصم القرار الأميركية والفرنسية والعربية التي تدعم الجيش ولا يجوز المجازفة بهذا الأمر.
المؤسف أن بعض المسيحيين مثل جبران باسيل وسليمان فرنجية لا يزالان ينظران إلى مسألة قائد الجيش من باب إبعاده عن المنافسة الرئاسية من جهة، والتدخُّل في المؤسسة العسكرية بعد أن أقفل القائد الحالي الباب أمام هذه التدخلات من جهة أخرى.
وما نعيشه اليوم ، حذّر منه البطريرك الراعي في مطلع السنة وتحديداً في 15 كانون الثاني 2023، ملمّحاً إلى مخطط قيد التحضير لخلق فراغ في المناصب المارونية والمسيحية لينتزعوها بالأمر الواقع. لا شك في أن الراعي دقّ ناقوس الخطر آنذاك وكشف المستور، معتبراً أن إطالة الشغور في رئاسة الجمهورية اللبنانية سيتبعه بعد مدة شغور في كبريات المؤسسات الدستوية والمالية والعسكرية…
لم ينطق البطريرك الراعي هذا الكلام من العدم ولم يكن يعبّر عن شعور لديه، إنما تواترت إليه معلومات تصب في هذا الإتجاه، وقد بدأت تُترجم من خلال عملية قضم ممنهجة للمناصب ومواقع الفئة الأولى المسيحية ولا سيما منها المارونية. وهذا ما يضرب أصول العيش المشترك المنصوص عنه في اتفاق الطائف.
واللافت أن عملية قضم المناصب المسيحية عموماً والمارونية خصوصاً بدأت منذ توقيع اتفاق الطائف ومستمرة حتى اليوم. والسيناريو يحصل كالآتي: بحجة الشغور في مناصب المدراء العامين ومراكز الفئة الأولى المدنية منها والعسكرية يتم تعيين رئيس بالتكليف من غير الطائفة المسيحية ليتحول لاحقاً إلى أصيل، أو يتولى نائبه أو مساعده المهام بالإنابة. ومعلوم أنه في حال كان المدير العام من الطائفة المسيحية يكون نائبه أو مساعده من الطائفة الإسلامية، مما يؤكد وجود عملية ممنهجة لتفريغ هذه المراكز المخصصة للطائفة المسيحية. وما يزيد من خطورة وضع الشغور الرئاسي الذي يساهم في تفريغ ما تبقى من مراكز الفئة الأولى من رؤسائها الأصيلين من الطائفة المسيحية. وهنا بيت القصيد.
وأصبح معروفاً للقاصي والداني أن من يعطّل انتخاب رئيس الجمهورية هو الثنائي الشيعي الذي ينسحب نوابه فور انتهاء الدورة الأولى من الجلسة الإنتخابية، وهذا ما تكرر 12 مرة! وهدف الثنائي أن ترضخ الكتل النيابية المعارضة وتنتخب مرشّح محور الممانعة سليمان فرنجية، فهل هذا الأداء ينسجم مع الآليات الديموقراطية الدستورية؟
لكن السؤال الأهم: لماذا يفعل الثنائي الشيعي كل ذلك؟
يعرف الجميع أن المسيحيين لا يمكنهم العيش بعيداً من مفهوم الدولة والدستور والقرارات الدولية والانفتاح على المجتمع الدولي ودعم الجيش اللبناني كقوة مسلحة وحيدة على كامل التراب اللبناني، ولا يمكنهم التأقلم مع مشروع محور الممانعة الذي يؤمن بوحدة الساحات التي تجمع بينها إيران وتوظّفها لتحقيق مشروعها الخاص.
مشروع المسيحيين في لبنان هو الحياد، ويقوده البطريرك الراعي على نحو أساسي، إلا أن هذا المشروع يتناقض مع توجهات “الحزب”، بدليل ما يحصل اليوم على الحدود اللبنانية-الاسرئيلية على خلفية الحرب في غزة، وهذا ما يطرح علامات استفهام عديدة لدى المسيحيين، بل يثير نقمتهم، ولا تكفي بعض المواقف المتضامنة مع “الحزب” والممانعة” من مسؤولين مسيحيين مثل باسيل وفرنجية لتكون معبّرة عن الوجدان المسيحي!
إذاً نشروع المسيحيين هو الدولة، وهو عكس مشروع “حزب الله”، من هنا بات واضحاً لماذا يفعل “الثنائي الشيعي” كل ذلك.
لا ثقة للمسيحيين بالثنائي الشيعي المريب بمشروعه الاستعلائي والانقلابي على مفهوم الدولة اللبنانية التي آمن بها المسيحيون بالجمهوريتين الأولى والثانية دستورياً، وهذا ما ينعكس عليهم وعلى شركائهم بالوطن انهياراً اقتصادياً، ربما المكوّنات الطائفية الأخرى تتأثّر، إلا أن المسيحيين هم الأكثر تأثراً، فيهاجرون بكثرة، وبات الخوف أن يحلّ مكانهم النازحين السوريين.
ويُشكّل العجز عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، والتبرُّم المسيحي المتزايد من سطوة “حزب الله” على قرار السلم والحرب في البلد حافزاً لطروحات من بعض القوى المسيحية تروّج للفيدرالية واللامركزية، مما يُتيح لهم عزل أنفسهم عن المسارات التي يُهيمن عليها “الحزب”. وعلى الرغم من توافق الأحزاب السياسية المسيحية المتناقضة على مناقشة خيارات اللامركزية بأشكالها واحتمالات الفيدرالية، فإنّ تحوّلاً بهذا المستوى يحتاج إلى رعاية خارجية تبدو غير متاحة في ظل الانقسام الإقليمي والدولي الراهن.
المرجعية العالمية الأساسية لمسيحيي لبنان هو الفاتيكان لأن ولاء الموارنة له حتماً، ولا شك في ان الكرسي الرسولي متوجّس من حرب جديدة في لبنان نتيجة المشاريع المستوردة من الخارج واستقواء بعض المكونات على مكوّنات أخرى، والتفريغ المتعمّد للمواقع المسيحية في الدولة. وموقف الكنيسة في هذا السياق يحرص على المحافظة على وجود المسيحيين، وأن يتمسّكوا بكلّ المناصب المخصّصة لهم في الدولة.
وتركيز الفاتيكان وبكركي الأساسي يبقى على انتخاب رئيس الجمهورية أولاً، رغم ما يحصل إقليمياً من حروب ومواجهات، لأنه رئيس الدولة والرئاسة الأولى تحقّق استقراراً سياسياً، فيما تؤمّن قيادة الجيش الاستقرار العسكري والأمني وحاكمية مصرف لبنان الاستقرار المالي. وبالتالي من هذه الزاوية، يشدّدان على أنّ هذه المواقع الثلاثة عندما تكون في خير يكون الاستقرار السياسي والأمني والمالي في خير.
المسيحيون بكل مكوّناتهم السياسية الأساسية لا يريدون تغيير النظام السياسي، لكن الإستمرار في تهميشهم على هذا النحو، سيدفهم بديهياً إلى طرح خيارات بديلة، والمسؤول عن هذا الشعور هو الثنائي الشيعي الذي يدفع إلى الشغور في المراكز الكبيرة والحسّاسة، مما يعني الخلل في التوازن تماماً في البلد، فبلا رئيس للجمهورية وبلا قائد للجيش أو حاكم لمصرف لبنان، أو في حال تسلّم نائب أي منهما هذين المنصبين، فهذا يعني تغيير في التركيبة وتخريبها!
