حين كان مار مارون يلتحف العراء في جبال قوروش أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس معلّماً ومبشّراً وزاهداً ويتكوكب حوله المؤمنون، لم يسعَ لتكوين كنيسة تسير نحو المسيح عبر نهجه وتعاليمه. غير أن الظروف أفضت الى قيام جماعة إعتنقت روحانيته قادها البطريرك الاول مار يوحنا مارون في القرن السابع، فشكّلت كنيسة رهبانية حيث نما المؤمنون في محيط الاديار التي لم تكن فقط حاضنة روحية بل اجتماعية واقتصادية وتربوية وثقافية.
"جبل لبنان هو وقف لله" وفق ما قال لموسى النبي، فشعر الموارنة انهم وكلاؤه وانغرسوا في جباله والوديان. تماهوا مع هذا اللبنان الذي ورد أكثر من 70 مرة في العهد القديم من الكتاب المقدس كما أرزه أيضاً، فشكّل بصمة مميزة في إيمانهم وطقوسهم. أعطي لبطاركتهم مجد لبنان وهم وصفوا امهم العذراء بأرزته.
شكّل لبنان حلماً مستداماً لدى الموارنة مفعماً بالحرية والعنفوان، فناضلوا في سبيل تحقيقه كياناً ليس بحكرٍ عليهم بل مساحة لكل باحث عن عيش إيمانه ومعتقداته بحرية في شرق مثقلٍ بالقمع والاضطهاد والدم والدموع.
كما لعبت البطريركية المارونية دوراً طليعياً عبر الاجيال في تحقيق هذا الحلم الذي شكّل كابوساً لكل الغزاة والفاتحين لأنه قدم نموذجاً مخالفاً لمحيطه. فنجحت بتجسيد هذا الكيان في جمهورية مع البطريرك الياس الحويك عام 1920. كذلك شكّلت مع رهبانياتها دوماً البوصلة عند أي شطط، فإنكفأت حين وجدت المسار مستقيماً وكانت طليعية حين إنحرف هذا المسار عن خطها التاريخي.
خير دليل على ذلك، تجربة بطريرك الاستقلال الثاني مار نصرالله بطرس صفير الذي صوّب البوصلة في ظل جنون الحروب نهاية ثمانينات القرن الماضي وغطى "الطائف" لإيقاف المدفع من جهة ولإدراكه أن هذه الحروب عبثية ولغايات شخصية. ثم قاوم بحكمة وصلابة الاحتلال السوري وملأ الفراغ الذي نجم عن نفي وإعتقال القادة المسيحيين. أطلق ومجلس المطارنة نداء ايلول الشهير عام 2000 ودفع بإتجاه إنشاء لقاء "قرنة شهوان" عام 2001 ولم يأبه لضغوط النظام الامني اللبناني – السوري الذي هدّد بأن "ينبت العشب على ادراج بكركي". فأثمر هذا النضال التراكمي - والذي تطور ليكسر الطابع المسيحي الى طابع وطني مع "لقاء البريستول" - جلاء للجيش السوري في 25 نيسان 2005 عقب تقاطعه مع قرار دولي حاسم بعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري.
يعيب كثر على الموارنة صراعاتهم فيما بينهم ويعتبرونها حكراً عليهم ويعزونها جراء السباق الى بعبدا وكأن الامر حالة مرضية مارونية. إنها لقراءة سطحية أو خبيثة، فالتنافس على السلطة موجود داخل كل الجماعات وهو أمر بديهي حيث للأسف ثمة بعض مسكون بالـ"أنا" لا يتورّع عن التضحية بمصلحة الجماعة خدمة لطموحاته مهما كان الثمن.
فهل مثلاً الصراع بين صبري حمادة وكامل الاسعد على رئاسة مجلس النواب - قبل أن تحصر منذ 30 عاماً بشخص الرئيس نبيه بري في الزمن السوري ثم في ظل التفاهم بين الثنائي "حزب الله" و"أمل" الذي شكّل إسقاطاً لتفاهم بين طهران ودمشق – هو صراع ماروني؟ هل مثلاً الصراع بين صائب سلام ورشيد كرامي او رفيق الحريري وعمر كرامي هو صراع ماروني؟ هل الفشل في الاتفاق على مجلس اعلى لطائفة ورابطة لأخرى هو صراع ماروني؟ هل الصراع بين "8 و14 آذار" هو صراع بين الموارنة أم بين مشروعين؟!!
التنافس قد يبلغ حدّ الصراع في المجتمعات التي تفتقد الى الثقافة الديمقراطية الحقة وإزدياد حدّته مرتبط أحيانا بطبيعة الاشخاص والمواقع والظروف وحكماً زمن الحرب يختلف عن زمن السلم. إلا أن الكنيسة المارونية إستثنائية في دورها الذي تلعبه كلما شعرت أن هذا الصراع يهدد هوية لبنان وروحيته، وهذا ما نعيشه اليوم مع البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الذي يعمل كما أسلافه على تصويب البوصلة عبر طرح "الحياد" الذي قد يكون حبل الخلاص الوحيد لبنان الرسالة.
إن كان بعض القادة الموارنة يشكّلون كبوة جراء إستسلامهم للذمية مقابل تحقيق مصالحهم، فالرهان يبقى على بكركي والقادة الذين لا يخرجون عن خطها في الامور الاستراتيجية وكل الامل بأن يكون الراعي "بطريرك الحياد" الذي سيحرر لبنان من أصفاد المحاور.