بنود الهدنة “الإنسانية”… في ميزان وميدان الممانعة

Palestinians fleeing north Gaza move southward as Israeli tanks roll deeper into the enclave, amid the ongoing conflict between Israel and Hamas, in the central Gaza Strip November 10, 2023. REUTERS/Ibraheem Abu Mustafa

 في بدايات الحرب اللبنانية أو ما اصطُلح على تسميتها “حرب السنتَين”، تكرّرت وتعدّدت اتفاقات وقف إطلاق النار، كما تكرّرت وتعدّدت الخروقات وفشل وسقوط هذه الاتفاقات لتعود وتستعر المعارك وجبهات القتال. وسميت الفترات التي فصلت بين إطلاق النار ووقفه ب”الجولات” لتستمر الحرب اللبنانية وتأخذ أشكالاً وتسمياتٍ مختلفة، تكون نتيجتها دماراً شاملاً ومئات آلاف القتلى والجرحى والمعوّقين والمفقودين، ولم تنتهِ إلا باتفاق سياسي فرضته الوصايات والمبادرات الخارجية.

في النموذج الفلسطيني، شهد قطاع غزة أيضاً حروباً عدة أو جولات من ضمن “الحرب على غزة”، فالأولى كانت في العام 2008-2009 لتليها في 2012 وال2014 و2019 و2021 و2022 وأخيراً الجولة أو الحرب السابعة التي اندلعت بعد عملية “طوفان الأقصى”…وفي كل الجولات السابقة حصلت وساطات ومبادرات وتدخّلات خارجية أفضت الى اتفاقات ل”وقف العدوان” وإطلاق النار والصواريخ وفكّ الحصار لتُخرَق وتَسقُط تباعاً، وليدّعي الطرفان المتنازعان انتصارهما في الجولات-الحروب الست السابقة وطبعاً بعد خراب غزة.

اليوم وأمام ما جرى من عملية “طوفان الأقصى” وما تبعها من حرب “إبادة على غزة” كلّفت عشرات آلاف القتلى والجرحى أكثرهم من الأطفال والنساء ومئات آلاف النازحين ودمار نصف قطاع غزة …نحن أمام هدنة “إنسانية” ضمن اتفاقية برعاية قطرية- مصرية -أميركية يدّعي فيها كلٌ من إسرائيل وحركة “حماس” إحراز انتصارٍ من خلال البنود الواردة في اتفاقية “الهدنة الإنسانية”.

لقد وضعت حركة “حماس” لدى إعلانها عن عملية “طوفان الأقصى” أهدافاً تسمو وتتخطّى ما قد يجري حالياً من عملية جزئية لتبادل الأسرى وزيادة بسيطة في إدخال المؤن والوقود الى غزة ووقف الاعتداءات الموقت والمشروط، مع الإشارة الى أن البنود “المنجزة” أتت بعد “توغّل” الجيش الإسرائيلي داخل قطاع غزة ومدينته، ولم تأتِ البنود على ذكر انسحاب المحتل من أماكن توغّله.

تشير البنود الى تبادلٍ لبعض الأسرى من الأطفال والنساء، علماً أن الجيش الإسرائيلي أسرَ بعد عملية “طوفان الأقصى” آلافاً إضافية من الفلسطينيين من قطاع غزة والضفة الغربية التي لم تلحظها الهدنة المحدّدة الزمان والمكان، في حين أن هدف “عملية الطوفان” الأول المعلَن كان “تبييض” السجون الإسرائيلية من الفلسطينيين.

المسؤولون الإسرائيليون أشاروا الى عزمهم على “استئناف” حربهم البرّية على غزة بعد انقضاء أيام الهدنة، كما الى عزمهم على استمرار استهدافهم لعناصر وقيادات حماس وفي كل مكان…وفي هذا إعتبر الجيش الإسرائيلي “أن أيام الهدنة يمكن استغلالها لإعادة تنظيم صفوفه استعداداً لتوسيع العملية البرية إلى جنوب قطاع غزة”،
فيما أشارت حركة حماس “أن بنود الاتفاق صيغت وفق رؤية المقاومة ومحدّداتها التي تهدف لخدمة شعبنا وتعزيز صموده في مواجهة العدوان”، وهذا يُفسّر أن العدوان مستمر على غزة، وأهداف المقاومة أمست خدمةً و”صموداً لشعب” مبادٍ أو على طريق الإبادة في مواجهة هذا العدوان المستمر .

ومن “إنجازات” حماس في الهدنة البند الذي يتحدث عن “ضمان حرية حركة الناس من الشمال إلى الجنوب على طول شارع صلاح الدين”، وهذا البند يسّهل إفراغ شمال غزة من “الصامدين” فيه وينقض ما حُكي “عن خدمة شعبنا وتعزيز صموده”.

“كل إفراج عن 10 إسرائيليين لاحقاً سيُقابَل بيوم تهدئة”،
هذا البند يشير ويؤكد أن العدو الإسرائيلي يستفيد بقوته العسكرية واعتداءاته ليستغلها ضاغطاً في إطلاق سراح أسراه لدى حركة حماس وكأننا في يوم 6 تشرين الأول 2023 ولا طوفاناً ولا من يطوفون.

في “سرديات” حماس عن الحرب: “إسرائيل لا تفاوض إلا إذا هُزمت على الأرض، اتفاق تبادل الأسرى والهدنة الإنسانية تُعتبر انتصاراً للمقاومة الفلسطينية”…وهنا يُطرح السؤال المشروع لماذا تقبل “المقاومة الفلسطينية” المتمثّلة بحماس بمفاوضة “المهزوم” وإعطائه جرعات من الأوكسيجين ليلتقط أنفاسه وينظم صفوفه ليعود وينقض على غزة أرضاً وشعباً ومقاومةً؟

في إطارٍ آخر وعلى الساحة اللبنانية، وعلى الرغم من تسريب مصادر حزب الله أنه “سيلتزم” بالهدنة الموقّعة بين إسرائيل وحماس بوساطة
أميركية-قطرية-مصرية من جانب واحد،مع العلم أن الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله كان قد إعتبر دخوله المعركة منذ 8 تشرين الأول 2023 هو لردع الإسرائيلي عن “التمادي” في غزة ولبنان، إلا أن ما حصل هو عكس ذلك تماماً …وآخر التمادي كان في تدمير واحتلال المستشفيات في غزة والقتل المتعمّد لصحافيي قناة الميادين في لبنان…وما سبقه من خروقات إسرائيلية لقواعد الاشتباك في الجنوب اللبناني، ليؤشر ذلك الى أن إسرائيل قبل الهدنة كانت جاهزة وساعية الى إشعال حرب على لبنان، مع الحديث عن حشد مئة ألف من جنودها في الشمال الإسرائيلي لمواجهة حزب الله، فكيف بعدها؟

وهنا يُطرح السؤال هل يقوم الحزب بمثل ما قامت به حماس حسب “سردياتهما” ب”ترييح” العدو “المثخَن” من ضربات المقاومة في فلسطين ولبنان ليتفرّغ لفتح الجبهة الشمالية ومن طرف واحد؟

من ناحية لا تقل أهمية عن دراسة بنود اتفاقية الهدنة الإنسانية، لا بد أن يلفت القارىء والمراقب غياب العامل الإيراني عن مسار المفاوضات والوساطات الذي أدّى الى الاتفاقية ليحلّ محله الثلاثي الأميركي-القطري-المصري وكأنه امتداد للنفي والنكران والتبرؤ الإيراني من عملية “طوفان الأقصى” وعمليات المقاومات في فلسطين ولبنان واليمن والعراق وسوريا ضد الأميركيين والإسرائيليين، وسحباً لبساط “حركة حماس” من تحت قدمي الإيراني ووضعه تحت قدمي راعيَّيها “العائدَين” قطر ومصر.

في الختام وبعيداً عن شعارات الشعبوية “التعموية” للمحور المقاوم الممانع، لا بدّ للمعنيين بأعمال “المقاومة” من اعتماد علمي موضوعي ومنهجي لجداول مقارَنة تسجّل الخسائر والأرباح، كما تستنتج الأضرار والمكاسب وتتبيّن المخاطر وأثمانها، ليُبنى عليها المقتضى الوطني والإنساني تجنّباً وتجنيباً لنتائج مثيلة لحرب قد تكون ثامنة أو تاسعة على غزة، وقد تكون ثانية أو ثالثة على لبنان تحت ندم “لو كنتُ أعلم”….

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: