تشهد المنطقة منذ قمتي جدّة وطهران بداية دوّامات وسياسات ومواقف "لولبية"، وتصعيداً ديبلوماسياً وعسكرياً يكرّسها ساحة مبارزة بين القوى الدولية والإقليمية المتصارعة.
تجلّيات التشابكات المصلحية بدأت تظهر على أكثر من صعيد، من إقليم كردستان العراقي الى حقل كاريش، مروراً بأوراق المنطقة بين إيران وإسرائيل وتركيا.
الرئيس التركي رجب طيب اردوغان أبلغ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في طهران، أنه لن يقبل بايكال أمر سوريا لإيران، كما أبلغ المرشد علي خامنئي بهذا الموقف مباشرة وصراحة، معتبراً أن في الأمر مسّاً بالأمن القومي التركي الذي هو جزء من الأمن القومي لحلف شمال الأطلسي.
من ناحيته، أوكل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمر سوريا ولبنان لإيران، فما تراه طهران في سوريا ولبنان يوافق عليه من دون تحفظ.أما إسرائيل فقد أبلغت الرئيس الأميركي جو بايدن ودول الخليج أنها لن تقبل بإيران نووية مهما كلف الأمر، فبالنسبة اليها كما لأميركا تشكّل إيران ضرورة تخادمية، لكن خطها الأحمر الوصول الى السلاح النووي.
بعد قمة طهران مباشرة، قُصفت منطقة زاخو شمال العراق، وأمام النفي التركي الرسمي والرئاسي مساء أمس من قبل اردوغان بضلوع تركيا في الهجوم رداً على التصعيد السياسي والديبلوماسي العراقي ضد أنقرة، يُطرح السؤال عما اذا كان لإيران يد في ما حصل في زاخو لأن قراءة المشهد تقودنا الى استنتاجات تصبّ في خدمة مصالح إيران، إذ أثبت هجوم زاخو إلتفافاً عراقياً شيعياً كردياً وسنّياً ضد تركيا، ما يعزّز السيطرة الإيرانية على الورقة العراقية ويظهر طهران بأنها الملجأ والملاذ في ساعة التهديد والخطر.وفي هذا السياق، ثمة معلومات بأن القوى السياسية العراقية المتصارعة حول تشكيل الحكومة في بغداد توافقت على ضرورة معالجة المشكلات بالحوار بدل التحديات المتبادلة نظراً لأن البلاد مهدّدة من دولة خارجية معادية كما يُروّج.
فالمؤشرات الجيو سياسية تذهب باتجاه التوتير في العلاقات بين إيران وتركيا، ما سيزيد من اصطفاف تركيا في المحور الغربي ودول الناتو، فيما إيران تتوغّل يوماً بعد يوم في العمق الروسي- الصيني.لكن اصطفاف تركيا مع الغرب يجلب "الصداع" للأميركيين والغربيين، فبالأمس أعلن الرئيس التركي إردوغان بأنه على الجميع أن يعلم بأن تركيا لن تتنازل ولو قليلاً عن الشروط التي وضعتها للإنضمام إلى حلف الناتو، في إشارة الى الضغوط الأميركية التي تُمارس على أنقرة في موضوع القبول بانضمام فنلندا والسويد الى الحلف، وقد اتهمهما الرئيس اردوغان بالأمس باستمرار أذرع "بي كي كي" في العمل لديهما ضد تركيا.
صحيفة نيويورك تايمز أكدت منذ يومين أن أردوغان "يدفع بايدن والناتو إلى الجنون" بشأن روسيا،وقالت إن الرئيس التركي أصبح بمثابة "مصدر إزعاج" للرئيس الأمريكي جو بايدن. وبحسب الصحيفة عينها، فإن مردّ ذلك إلى حقيقة أن أنقرة غالباً ما تنتهج سياسة تتعارض مع أجندة الدول الغربية و"تدفع إدارة الرئيس الأمريكي إلى الجنون" .ولفتت الصحيفة إلى تحذيرات أردوغان المتكرّرة باستخدام حق النقض ضد انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، ورحلته إلى طهران للقاء كل من الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والإيراني إبراهيم رئيسي.
وخلصت النيويورك تايمز إلى أن "هذا الأمر يتعارض ليس فقط مع سياسة الغرب المعادية لروسيا، ولكنه يدمر أيضاً رواية دول الناتو عن إيران وروسيا المعزولتين بشدة".
من هنا أيضاً يمكن فهم : سياسياً توتر الرئيس اردوغان الذي صمّم على غزو شمال سوريا وضرب الأكراد، وقد صرح أمس بأن سوريا باتت "بؤرة" للتنظيمات الإرهابية، وعلى روسيا وإيران إتخاذ موقف حيالها بما يفسر امتعاضه من الهيمنة الإيرانية الكاملة بغطاء روسي على الورقة السورية، وميدانياً عملية قتل جندي تركي في شمال العراق أمس وإصابة 4 آخرين ...
فلا الناتو يريح تركيا، ولا الروس والإيرانيون يريحونها، لأن أنقرة تريد الاستفادة من المعسكرَين المتواجهَين، لكن هذا لا يمنعها من قطف بعض الثمار كاتفاق القمح بين روسيا وأوكرانيا والأمم المتحدة، في وقت يردد فيه الرئيس اردوغان بأنه على نفس مسافة الصداقة بين أوكرانيا وروسيا.
على الصعيد الروسي الإيراني،فإن تداعيات حرب أوكرانيا ومواجهة روسيا مع الغرب إنعكست منذ قمة طهران على أجندة الرئيس الروسي بوتين : فمن جهة قرّب إيران منه بعدما كان يسعى قبل الحرب الى التخلص تدريجياً من تأثيراتها على مصالح موسكو في سوريا، فكانت طهران تحتاج لاتفاق نووي مع الأميركيين والغرب للتوازن الدولي في علاقاتها، ثم أبرمت اتفاقاً استراتيجياً مع الصين، لكن ومنذ قمة طهران أُعيد خلط الأوراق وباتت طهران بالنسبة لبوتين أولوية تحالفية، ومن جهة ثانية أقرّ بالدور الإيراني المؤثر في كل من سوريا ولبنان، بما يمكن اعتباره ضوءاً أخضر لتولّي أمور البلدين بالنيابة عن موسكو المنشغلة في حربها الأوكرانية ومواجهتها مع الغرب.
وانطلاقاً من هذه الأولويات الروسية المستجدّة، والتي ترافقت مع تصعيد الرئيس بوتين تجاه إسرائيل بإغلاق مكاتب الوكالة اليهودية في روسيا رداً على ما يعتبره "طعنة الظهر" الإسرائيلية في حرب أوكرانيا، وعلى عدم التزام إسرائيل بوقف الغارات على سوريا، بدأت ترتسم معالم صفقة ما قد تُحاك بين إيران وإسرائيل، وقد لا يسلم منها لبنان الذي قد يكون في صلبها.فإسرائيل بحاجة للقيام بمبادرة تجاه الرئيس بوتين للتهدئة معه، وإيران بحاجة الى إظهار تعاونها أو أقله تسهيلها للمفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل لإثبات إمساكها بالورقة اللبنانية، واستعدادها للتفاوض والتوصّل لحلول، في إشارة الى المفاوضات النووية، وبالتالي هذه الصفقة، إما أن تنجح في التبلور من خلال إرادة إيرانية في تسهيل ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل فيتم الاتفاق على الخطوط العريضة بينهما ويأتي هوكستين في مهمة تكريس الاتفاق المبدئي ويخرج حزب الله برصيد سياسي وديبلوماسي مؤثر على بيئته انطلاقاً من كونه المنتصر بفضل تشدّده وسياسة المسيّرات والتهديد والوعيد لإسرائيل، وإما أن تفشل فيكون البديل توتراً إقليمياً انطلاقاً من سوريا قد ينعكس سلباً على الوضع الأمني والعسكري في لبنان ويعيد خلط أوراق إقليمية أخرى.
مساء أمس، أطلق أمين عام حزب الله حسن نصرالله تهديداً جديداً لإسرائيل في توقيت مريب، إذ وبحسب المعلومات الديبلوماسية المتوفرة حول زيارة هوكستين يوم الأحد المقبل الى لبنان فإن الرجل آت ومعه موافقة إسرائيلية.فهل تهديد نصرالله جزء من مسرحية "الإستئساد الإعلامي" لطبخة منتهية ومتفق عليها ويحين قطافها قريباً لصالح إيران والحزب وإسرائيل معاً؟
مشهدية متداخلة متصارعة ومتشابكة تعكس طبيعة المرحلة الدولية والإقليمية، وترسم ملامح "عصفورية مصالح" متضاربة ومتناقضة تارة ومتوافقة ومنسجمة طوراً، تبعاً للحسابات والمواقع الجيو سياسية.