Search
Close this search box.

جمهورية “البيجاما” الأفلاطونية!

كتب محمود القيسي:

في القرية يقولون لي مكانك ليس هنا.
في المدينة يقولون لي مكانك ليس هنا.
في الوطن يقولون لي مكانك ليس هنا.
وفي المنفى يقولون لي مكانك ليس هنا.
أين مكاني إذًا؟ في الفضاء!
في مرحلة الفطام، وأنا أحبو باكيا، وراء أمي المنصرفة عني، وراء الكنس والمسح ونفض الغبار، كنت آكل كل ما تطوله أظافري الغضة من تراب العتبة والشارع وفسحة الدار. ويبدو أنني أكلت حصتي من الوطن منذ ذلك الحين .
محمد الماغوط

في بلاد الأحرف الأبجدية لا نقراء سوى “عنوان” الكتاب أو الرواية والقصيدة دون الإطلاع في أقل تقدير على “جوهر” الكتاب والرواية والقصيدة.. في بلاد “الكلمة” والكتاب والرواية والقصيدة اصبحنا على “هامش” الكتاب والقصيدة.. اصبحنا مجرد دمى تحركها “النار”، نار “الكهف” الأفلاطوني الأشهر.. “اعتقد أفلاطون أن الفلاسفة وحدهم يفهمون كيف يبدو العالم حقًّا. فهم يكتشفون طبيعة الواقع بالتفكير وليس بالاستناد إلى حواسهم.

وصف أفلاطون، كي يشرح هذه النقطة، كهفًا افتراضياً. في هذا الكهف أشخاص مقيدون بالسلاسل ويقابلهم جدار يعزلهم عن الخارج. ولا يمكنهم أن يروا قبالتهم سوى ظلالًا مترجحة يعتقدون أنها أشياءُ حقيقية. لكنها ليست كذلك. فما يرونه مجرد ظلال مصدرها موضوعات كائنة بإزاء نار هي خلفهم. يقضي هؤلاء الأشخاص حيواتهم كاملة ظانين أن الظلال الساقطة على الجدار هي العالم الحقيقي الوحيد. وبعد ان يتحرر أحدهم بعد ذلك من سلاسله ويلتفت إلى النار. يكون بصره في بادئ الأمر مُغشًّى، لكنه يبدأ بعد ذلك برؤية المكان الذي يحيط به. يتعثر طريقه خارجًا من الكهف، ثم يتأتى له أخيرًا أن يبصر الشمس لأول مرة في حياته.

ولكن عندما يعود إلى الكهف، لا يصدقه أحد في ما عليه أن يخبرهم عنه بشأن العالم الخارجي والشمس. مَثَل هذا الإنسان الذي يتحرر من السلاسل كمثل الفيلسوف. فهو يبصر في ما وراء التمظهرات. أما الأناس العاديون ففكرتهم عن الواقع ضئيلة لأنهم يكتفون بالنظر إلى ما يقع قبالتهم عوضًا عن التفكير فيه عميقًا. مع أن التمظهرات مضللة. حيث إن الظلال هي ما يرونه، وليس الواقع الحقيقي”.

لا أدري لماذا لم يركز أفلاطون في قصة الكهف الرمزية والتي اخبرها من خلال شخصية سقراط في كتاب الجمهورية على حكام الكهف الذين يملكون كل الأشياء من البلاد إلى العباد.. ويحركونها كما يشاؤون، ويشعلون النار متى ارادوا، ويقيدون السجناء كيفما شاءوا، ويحتجزونهم منذ الولادة إلى الممات، ويحافظون على تفوقهم من خلال الإيحاء للسجناء بإن الخدعة في رؤية الأطياف هي الحقيقة الوحيدة.

الحقيقة الوحيدة في تقيد أرجلهم واعناقهم، وإجبارهم على النظر في أتجاه واحد، أو بمعنى أصح، في تعوديهم على النظر في أتجاه واحد. أتجاه الحائط، الحائط الوحيد أمامهم في عمق الكهف، أو في عمق جمهورية الكهف.

نحن في لبنان هذه الأيام لا نقرأ حتى عنوان الكتاب.. نعيش، أو بالاحرى نموت في “دويلة” الكهف بين منصة من هنا ومنصة من هناك. نموت كل يوم من القهر في جمهورية “البيجاما”، البيجاما الرئاسية والوريث المختبئ خلف الباب، باب الكهف. “ارتبط اسم الرئيس الفرنسي الراحل ديشانيل بالبيجاما الرئاسية. ففي ليلة 23 ايار/مايو 1920، كان الرئيس ديشانيل مسافراً على متن القطار الرئاسي. خلال الليل انتابه شعور بالاختناق، نهض من فراشه مرتدياً بيجامته بطبيعة الحال، وتوجه إلى النافذة بغرض فتحها واستنشاق الهواء، ليختل توازنه ويسقط من القطار. لكن الحظ كان حليف ديشانيل، أصيب بجروح طفيفة وعثر عليه أحد عمال السكك الحديدية فاصطحبه إلى منزله، كل هذا والرئيس بثياب النوم.

هذه الحادثة أججت الجدل حول الوضع الصحي لبول ديشانيل. تردد في الأوساط السياسية والاعلامية أن سبب اختلال توازن الرئيس وسقوطه من المقصورة هي الأدوية والمهدئات التي كان يتناولها بغرض العلاج من الاضطرابات النفسية التي كان يعاني منها، اضطرابات دفعته مثلاً إلى توقيع البريد الرئاسي بإسم “الامبراطور” نابليون بونابرت.

ومع طرح تساؤلات حول أهلية ديشانيل لمنصب الرئاسة (منصب فخري إبان الجمهورية الثالثة) قرر الأخير الاستقالة حفظاً لماء الوجه. نعم، حفظاً لماء وجه الشعب الفرنسي والجمهورية والرئاسة.

ولم يفوّت “أهل الإبداع” هذه الفرصة: فنُشرت عشرات الرسوم الكاريكاتورية التي صورت ديشانيل بثياب النوم، إلى جانب الأغنية الشهيرة التي أطلقت بغرض “تخليد” الحادثة، أغنية حملت عنوان: البيجاما الرئاسية”.

لم يبقى من جمهورية “أفلاطون” لبنان سوى “كهف” الجمهورية.. لم يبقى من ميراث اب الاورانج الروحي سوى الابن الضال، الابن الضال في ممارسة الكذب السياسي وسياسة الكذب. لم يبقى من جمهورية أفلاطون الرئاسة سوى “وريث” يمارس ترويض القطط في سيرك ميرنا الشالوحي معتقداً ان عصير الليمون حليب سباع!

لم يبقى من “عهد” دولة “الدويلة” العونية سوى صورة “الجنرال” والبيجاما “التاريخية” في “متحف” قصر الرئاسة في بعبدا.. لم يبقى من عهد الصورة والبيجاما سوى كرتونة إذلال للمواطن من هنا وكرتونة إذلال من هناك ودولار طلابي في “الغيب” ودولار أسود في الجيب!!

لم يبقى من دويلة “الأقزام” سوى طوابير الموت المدعوم وطوابير الموت الغير مدعوم.. لم يبقى من دويلة “الكهف” سوى الفكر الكاذب والطحين الفاسد والدواء المفقود والرغيف المخطوف والوريث المنبوذ!!!

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: