حقائق جيو سياسية من صلب التقلّبات المصيرية في المنطقة

IMG-20220921-WA0010

مَن يراقب التطورات السياسية والميدانية بين أوكرانيا وأوروبا وتايوان وآسيا وما بينهما إيران ومنطقة الشرق الأوسط، يخرج بسلسلة من الاستنتاجات والعِبَر، إنما المهم فيها كلها أنها تشي بارتسام معادلات أساسية تُبنى عليها الأحلاف وولادة نظام عالمي جديد.

هناك ٤ حقائق تاريخية يجب التوقف عندها لمحاولة استشراف ما يمكن أن يحصل في خلال الأشهر القليلة المقبلة على ساحات الصدام والتماس العالمية :

أولاً : في الشرق الأوسط، نحن أمام سياسة أميركية "أوبامية" جديدة قوامها تفضيل الفرس الإيرانيين على العرب المسلمين، وذلك منذ زرع دولة الثورة الخمينية في المنطقة، فواشنطن وأوروبا ودول الغرب إجمالاً في سعيهم الدؤوب لاسترضاء إيران كما هو حاصل حالياً عبر السهر على إنجاز اتفاق نووي وتجنّب إثارة ميليشياتها في المنطقة وعدم التطرّق الى برنامجها الصاروخي، إنما تسعى الى إضعاف الخليج والدول العربية التي شكّل توحدها بعد فشل الثورات العربية للإطاحة بها ثقلاً سياسياً وجيو سياسياً كبيراً أخافَ الغرب، وبخاصة واشنطن التي كانت ضالعة حتى أذنيها في تشجيع ذاك الربيع.فإيران التقطت فرصة تقاطع المصالح والتخادم بين مصالحها ومصالح الغرب لنشر نفوذها في المنطقة وتهديد الدول الوطنية فيها لحساب ثورتها العقائدية فكانت ولادة الإسلام السياسي سواء السني أو الشيعي.ودخل الشرق الأوسط أو غرب آسيا مرحلة من الزعزعة بدأت ملامحها مع الحرب العراقية- الإيرانية، وصولاً الى الثورات العربية، مروراً بإنشاء المنظمات المتطرّفة من القاعدة الى داعش وطالبان وسواها. فمَن ينظر الى كل تلك التقلبات يلاحظ، في قراءة استراتيجية، توجيهها كلها ضد الخليج والعالم العربي الصامد.

ثانياً : مَن يتابع وقائع التفاوض على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل تأخذه الحيرة في أمره، إذ كيف يمكن أن يصح الترسيم بين الطرفين للحدود البحرية ويلجأ الى التفاوض من أجل الاتفاق الى التفاهم مع إسرائيل، فيما لا يمكن أن يشمل التفاهم الحدود البحرية المتضمنة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا حيث اللغة عندها تتحول الى لغة مقاومة وقتال وتهديد ووعيد؟فلبنان الذي يفاوض إسرائيل حول الترسيم البحري يُسقط من تلقاء نفسه أسطورة السلاح المقاوم لمطامع إسرائيل، إذ يُثبت أنه بالإمكان " أكل العنب " من دون بالضرورة خوض حروب،فالمعادلة بالتالي ليست معادلة مقاومة إحتلال بقدر ما هي معادلة إستمرار مخطط تصدير الثورة و"تشييع" المنطقة والسيطرة على مقدّرات دولها لضرب العرب ودولهم الوطنية وتقسيم المنطقة وتفتيتها، فالمشروع الإيراني الثوري ضد الأنظمة التقليدية، وهو بحاجة لحجج لكي يرسّخ سيطرته وتقسيم الدول، ومن أهم تلك الحجج مقاتلة إسرائيل ومقاومة احتلالها لفلسطين، والكل بات يعلم بأن لا تحرير لفلسطين ولا إفناء لها ولا قضاء على الدولة العنصرية اليهودية، لأن اسرائيل في طليعة مَن يحتاج إيران لتبرير وجودها، وإيران تحتاج إسرائيل لتبرير أجندتها الإقليمية.أنه زمن محاولات العودة الى حقبة الإمبراطوريات من شمال الأورال الى أقاصي آسيا المغولية الصينية.

ثالثاً : "السيبة" الثلاثية التي تحكّمت لعقدين من الزمن بالمنطقة وقوامها إسرائيل، إيران وتركيا هي التي أمّنت حزام تطويق العالم العربي والخليج منذ سايكس بيكو الى يومنا هذا، وهذه السيبة الأميركية الظل والرعاية أدارت مخططات ضرب العالم العربي من المحيط الى الخليج، وهي اتفقت على معاداة العرب من خلال إحياء الأطماع الإمبراطورية والتوسعية بخاصة تركيا وإيران، فيما إسرائيل سعت على الدوام الى دعم المخططات الهادفة الى إضعاف محيطها العربي الرافض لوجودها، وصولاً الى خوض غمار السلام والتطبيع معها على مراحل مستفيدة من نتوأت الأمبراطوريتَين الإقليميتَين ونقاط ضعفها لترسيخ وجودها وتحوّلها من واقع غاصب الى واقع مقبول ومعترف به، وقد أحسنت آسرائيل استغلال الإحباط العربي بعد نكسات الحروب العربية معها وتفتت العرب وتصادمها مع بعضهم، كما أحسنت استغلال انقسام الفلسطينيين على بعضهم وانعكاس انقسامهم تشتتاً عربياً في النظرة الى القضية التي قيل يوماً إنها القضية المركزية للأمة العربية، ما شجّع الإتكالية الفلسطينية وسمح باستباحة دول المنطقة في صراعات غير متكافئة تارة بين بعضها البعض وطوراً مع الغرب المستحكِم والمستعمِر،فانتهت السيبة الثلاثية بتحقيق ما تصبو اليه وباتت تركيا رقماً إقليمياً صعباً، وإسرائيل مركز استقطاب عربي إقليمي، وإيران مصدر العداء والتهديد الأول للعرب وللنسيج العربي الإسلامي داخل كل مجتمع عربي في المنطقة.

رابعاً : كثيرون يراهنون حالياً على انكسار الغرب لنصرة العرب والشرق من روسيا الى الصين، لكن يجب أن لا يغيب عن بالنا أن أعظم وأقوى من الاتحاد السوفياتي لم يوحد خصماً شرساً للغرب، ومع ذلك وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية إنهار المارد السوفياتي في وقت كانت الحرب الباردة في آسيا امتداداً بارزاً للحرب الباردة العالمية التي شكّلت معظم السياسة الدبلوماسية والأعمال الحربية من منتصف أربعينيات القرن العشرين إلى العام 1991. وكان كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والصين وتايوان (جمهورية الصين) وكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية وفيتنام الشمالية وفيتنام الجنوبية وكمبوديا وتايلاند وإندونيسيا وماليزيا والهند وباكستان وأفغانستان اللاعبين الرئيسيين في هذه الحرب. شاركت دول أخرى أيضاً، منها في الشرق الأوسط، ولكن تأثيرها لم يكن مباشراً. في أواخر خمسينيات القرن العشرين، انقلبت الصين على الاتحاد السوفياتي وتحارب الإثنان من أجل السيطرة على الحركات الشيوعية في جميع أنحاء العالم، وخصوصاً في آسيا، فيما انتصر الغرب وعاد وأسقط حائط برلين لنصرة الديمقراطيات على الدكتاتوريات. فاذا كان كل هذا في أثناء الحرب الباردة وبحضور جبابرة حروب فما يمكن أن يكون عليه الأمر اليوم وكل من الصين وروسيا وكوريا الشمالية محاصرين بتكتلات غربية آسيوية تشكل حتى الساعة نقطة الثقل العالمي وحجر زاوية النظام الردعي الغربي؟في الحرب العالمية الثانية ضد الغرب سقط هتلر، وفي الحرب الباردة سقط الاتحاد السوفياتي،أما في الحرب الباردة فسقطت كل دول المنظومة السوفياتية في أوروبا الشرقية …وفي العام ٢٠٠٣ تم إسقاط صدام حسين …ثم أبرز الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي، من القذافي في ليبيا الى بن علي في تونس الى علي عبدالله صالح في اليمن … وبشار الأسد وإن بعد حين فسيسقط هو الآخر … ولم يبقَ سوى أن يسقط النظام الإيراني الذي يشتري الوقت ويلعب على حاجة الغرب اليه وهو ربيب الغرب أصلاً.الانعطافة العالمية والإقليمية الحالية تاريخية بامتياز ونادرة الحدوث الا كل خمسة أو ستة أجيال، والنظام العالمي الجديد حالياً في مخاض ما قبل ولادته لأن العلم والتكنولوجيا الى جانب الغرب حتى إشعار آخر، خصوصاً في منطقتنا التي تبقى محسوبة على الأميركيين والغرب مهما حاول بعض العرب التوجه شرقاً أو الضغط باتجاه الشرق.البعض يشبّه أوكرانيا وتايوان في الحسابات الاستراتيجية والجيو سياسية "بإسرائيل الشرق الأوسط"، ما يعني أن كلاً من الصين في تايوان وروسيا في أوكرانيا مرشحتان لتجرّع كأس السمّ الذي يعطى لهما.منذ أن تنازل البريطانيون للأميركيين عن المنطقة إبّان الحرب العالمية الثانية ومعادلة ترسيخ النفوذ الأميركي تتعاظم مفاعيلها حتى الآن، ولا يظنّن أحد أن واشنطن تستطيع ترك الشرق الأوسط، وآخر مَن حاول ذلك الرئيس بايدن في بداية ولايته الا أنه ندم وعاد ولو من بوابات غير مستحبة عربياً وإسرائيلياً.

خامساً : نحن في مرحلة فوضى عالمية أقرب مما كانت عليه في العصور الوسطى بعدما تشعّبت الصراعات في كل مكان وضعفت سلطة الدول مما كانت عليه منذ صلح ويستفاليا عام ١٦٤٨، ومن الممكن أن يعود العالم الى قرون وسطى، فالحروب تقلب موازين قوى كثيرة وتطيح بمبدأ سيادة الدول وبخاصة في المنطقة، وصولاً الى ضرب إيران وإسقاطها، وقد بدأت ملامح الانقسام الإيراني الداخلي والثورة الشعبية احتجاجاً على مقتل ماسي اميني المناضلة على يد السلطات الإيرانية، ترسم أفق مستقبل إيران الغامض والمهدّد بالانفجار في أي وقت.واشنطن على محك مصداقيتها وعلى الديمقراطيين واجب تأكيد ثوابت إدارتهم في المنطقة وأهمها، كما صرح وزير خارجيتها أنطوني بلينكن، العودة الى التحالفات الإقليمية.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: