سوريا في مهب التغيّرات الجيو سياسية

سوريا

بين الحرب في أوكرانيا ومتعرّجات مفاوضات النووي الإيراني وتبعات التصعيد الإسرائيلي، تبدو سوريا المسرح المفضل لترجمة التقلّبات الحادة في الأدوار وخلط الأوراق الإقليمي الجديد.

من المعلوم أن بشار الأسد لم يعد الممسك بحكم سوريا في ظل الوجود الإيراني والتأثير الروسي منذ عقدٍ من الزمن، وقد سلّم إدارة البلاد لحليفيه مع أفضلية أولى للإيراني الذي استثمر أفضل استثمار هذا التحالف، لدرجة إحداث تغييرات ديموغرافية لصالح التوطين الشيعي في مناطق ومدن سوريا السنّية تاريخياً.

اليوم سوريا أمام مفترق خطير ومصيري : فإما أن تذهب ضحية التصفيات النهائية للحسابات بين اللاعبَين الإقليميَين ولا سيما إسرائيل وإيران، وإما أن تعود الى الحضن العربي وقد بدأت مساعٍ إماراتية مدعومة سعودياً ومن جامعة الدول العربية ومصر في هذا الاتجاه الى أن توقفت مع وصول الرئيس جو بايدن الى البيت الأبيض حيث لا تزال واشنطن الديمقراطية لا تعترف بنظام الأسد ولا بمسرحية إعادة انتخابه لولاية جديدة.

الأسد وضع كل أوراقه بيد طهران مع أن التحالف الإيراني- السوري منذ نشأته عام 1970 أيام حافظ الأسد لم يعطِ الإيرانيين أوراقاً كثيرة للسيطرة على روسيا، وقد كان حافظ الأسد أذكى من أن يسمح لربيبة الغرب في المنطقة ( أي إيران ) من أن تمتلك سوريا، ذاهباً في المقابل باتجاه التحالفات والشراكات الندّية الى أقصى حدود التعاون.

اليوم بشار الأسد أعجز من أن يطلب من إيران أي طلب يخص سوريا خارج استراتيجية طهران الإقليمية والدولية ومتطلبات أجندتها، لأنه وضع نفسه في موقع الارتهان الكامل للحرس الثوري وميليشياته، وليس من قبيل الصدفة أن يكرر أمين عام حزب الله حسن نصرالله في ذكرى أربعين تأسيس الحزب بأن حزبه مستعد للذهاب مجدداً الى سوريا إن دعت الحاجة، مؤكداً المؤكد لجهة ابتلاع إيران للورقة السورية وهذه المرة بإذن وترخيص وضوء أخضر روسي، بعدما أدرك الرئيس فلاديمير بوتين أن أثقال حربه في أوكرانيا وتداعياتها الإقليمية فرضت عليه القبول بالدور الإيراني شبه الكامل في سوريا مع نتائجها ومفاعيلها السياسية والعسكرية كافة.

سوريا اليوم تدفع ثمن اهتزاز الستاتيكو الإقليمي الدولي الذي أسس لتثبيت نظام آل الأسد منذ السبعينيات بعد انتهاء حروب العرب ضد إسرائيل في الأربعينيات والستينيات لأن هذا الستاتيكو دعم قيام حكم في سوريا يضمن لإسرائيل أمنها انطلاقاً من الجولان بكفالة الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي آنذاك روسيا اليوم، بحيث أدى ذلك الى قيام قوة تابعة للأمم المتحدة تأسست بموجب قرار مجلس الأمن رقم 350 في 31 مايو 1974 لتنفيذ القرار 338 لعام 1973 وقرار مجلس الأمن رقم 242 الداعي لوقف فوري لإطلاق النار، والقرار رقم 242 لمراقبة الهدنة العسكرية لسوريا وإسرائيل،فتأسست هذه القوة الدولية في أعقاب حرب تشرين عام 1973 لمراقبة الفصل بين القوات السورية والإسرائيلية في مرتفعات الجولان التي احتلها الطرف الثاني في حرب يونيو/حزيران 1967.حينها وقّعت كل من سوريا وإسرائيل في نفس اليوم على اتفاقية فك الاشتباك في مرتفعات الجولان وتوقفتل عن إطلاق النار وانتهت حرب أكتوبر 1973على هذا الأساس.

اذا المرتكزات الإقليمية والدولية لقيام النظام السوري بُنيت على قرار إقليمي دولي وكان لا بد من ضامنين دوليين لاستمرار هذا النظام، خصوصاً وأن النظام السوري من الأب الى الأبن لم يكن يوماً سوى نظام بوليسي أمني استخباراتي نكّل بشعبه قبل التنكيل بشعوب أخرى وعلى رأسها الشعب اللبناني حين احتلت دمشق لبنان إثر مكافأة الأميركيين لحافظ الأسد مقابل انضمامه للتحالف الدولي العربي لمحاربة صدام حسين في حرب الكويت.اليوم تلك المرتكزات تزعزعت وأصبحت آيلة للسقوط، خصوصاً بعد الخصومة الكبيرة التي أفرزتها حرب أوكرانيا بين موسكو

وواشنطن والمعسكر الغربي إجمالاً، ما فرض تقارباً روسياً- إيرانياً في مواجهة حلفاء الغرب في المنطقة وعلى ر أسهم إسرائيل.

والملاحظ أن إيران التي أصبحت لاعباً أساسياً في المنطقة وفي سوريا كانت حتى العام 2019 تقريباً تتجنب إدخال ميليشياتها في سوريا ووجودها ككل في مواجهة مع إسرائيل، رغم إمعان الأخيرة في شن عشرات الغارات على مواقعها بسبب وجود الضابط الروسي الذي، ومنذ العام 2015، فرض قواعد اشتباك جديدة بين طهران وتل أبيب في سوريا، متسامحاً تجاه إسرائيل التي كانت تنسق عسكرياً مع موسكو عند كل غارة تلبية لهدف روسي آنذاك بإضعاف الهيمنة الإيرانية على سوريا.

هذه القواعد تبدلت اليوم، ومعها تبدلت ركائز استمرار نظام الأسد بين رضى إسرائيلي وتلبية لمصالح إيران وروسيا، وبتفكك المرتكزات التاريخية للنظام السوري، وها هي إسرائيل تستأنف غاراتها في سوريا مستفيدة من غياب التأثير الروسي، فيما إيران انتقلت الى مرحلة متقدمة من تهديد الأمن الإسرائيلي القومي، سواء في سوريا أو الجولان أو على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية، مستثنية الى الآن المفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل من لعبة التجاذب، بانتظار الحاجة لاستخدامها كورقة من أوراق ساحات إيران المستحدثة.

وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، في تصريحه الأخير حول استراتيجية واشنطن العسكرية ضد إيران بموازاة المفاوضات حول الاتفاق النووي، أوحى بوجود قرار أميركي – إسرائيلي بتولي معالجة المسألتين الأكثر حساسية لدول المنطقة وإسرائيل الا وهما الميليشيات الإيرانية وبرنامج إيران الباليستي، فمسألة ميليشيات إيران في المنطقة لا تزال أولوية لدى دول المنطقة وأهم تجمع لميليشيات إيران في سوريا .من هنا أهمية وخطورة ما يحصل من مواجهات وغارات وهجمات متبادلة منذ أسبوع في شرق وغرب سوريا بين القوات الأميركية وقوات التحالف الدولي ضد الإرهاب من جهة، وبين الفصائل والميليشيات التابعة لإيران في المنطقة من جهة أخرى، وقد تخللها تعاون استخباراتي عسكري وميداني بين إسرائيل وبعض دول المنطقة، ما ينذر بتوسع العمليات واتخاذها منحى حاسماً وحازماً أكثر فأكثر، فيما مفاوضات الاتفاق النووي تدخل من الباب لتخرج من الشباك ولا مَن يعلم الى أين ستصل هستيريا التصريحات الإيرانية والردود الأميركية والأوروبية في عملية التوقيع.

فإسرائيل يبدو أنها قاب قوسين أو أدنى من إحداث انقلاب في المشهد السوري باتجاه رفع الغطاء الجيو استراتيجي عن نظام الأسد الذي لطالما خيم وجود حكم العائلة منذ السبعينيات للتوصل الى ضرب الوجود الإيراني على الأراضي السورية.

واللافت في هذا السياق تناغم تصاريح المسؤولين الإسرائيليين مع تصاريح البيت الأبيض وفي طليعتها تصريح الرئيس بايدن نفسه الذي أعلن في رسالته الى الكونغرس الأميركي مصوباً على الحرس الثوري ذاته الذي تنازلت إيران عن شرطها بشطبه من قوائم الإرهاب ، عن حصول هجمات وضربات لميليشيات إيران في سوريا تهدد أمن القوات الأميركية والوجود الأميركي في المنطقة، متوعداً بالمزيد من الضربات والعمليات ضدها، في خطاب واضح موجه للداخل الأميركي وللطرف السياسي المناهض لسياسة البيت الأبيض وللرأي العام الأميركي عشية الانتخابات النصفية، كل هذا في نفس اللحظة التي تسعى فيها واشنطن والغرب الى توقيع اتفاق نووي سبق لنا ووصفناه بالوليد القيصري، واليوم يكاد يكون أشبه بالولد اللقيط الذي لا يزال ابواه يتنكران له بشكل أو بآخر رغم إدعائهم الأبوة.

هكذا يبدو أن العد العكسي لبداية نهاية النظام في سوريا تبعاً لانهيار ” السيبة ” التي قام عليها قد بدأ وعلى نار حامية هذه المرة، خصوصاً وأن انهيار النظام الإيراني في دمشق يفيد كل الأطراف الإقليمية، من تركيا الى إسرائيل مروراً بدول الخليج ومصر والأردن خصوصاً تلك التي تعاني من تهديد أمنها القومي إيرانياً من الحدود السورية.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: