عن شُعيرات شَيب العزة والكرامة...وكيس العدس والصابون

Doc-P-530281-636784159001658783 (4)

بقلم بلال شفيق جدايل

وقفتُ اليوم أمام المرآة، لقد بدأ الشيب يكتب للناظر تاريخي....قصص وقصص وقصص، وحكايات وأفراح وأتراح، من يوم كنتُ ألهو مع أبناء الجيران ورفاق المدرسة و "بوسطة أبو عمر"، إلى مدرسة الIC وحبي الأول، وإلى الجامعة الأميركية وحبي الثاني والثالث والرابع والسابع عشر، إلى يوم هجرتي عن بلدي المعطاء لمتابعة تحصيلي العلمي، وعملي على مدى أربعين عاماً، وما رافقه من وزواج وأولاد و و و...

قصص وحكايا كأي إنسان بلغ السابعة والخمسين من العمر وأزعجته تلك الشعيرات البضاء.ترك بلده لمستقبل أفضل، تركه لأنه رأى أنه بلد صغير، يتلاعب به جاره المزعج تارة ويضربه جاره الطمّاع تارة أخرى، ولكنه بلد، بلد أحَبَه ولو لم يعطه شيئاً طوال أكثر من نصف قرن.كنت أقف إجلالاً واحتراماً كلما سمعتُ نشيده الوطني "كلنا للوطن"، وكانت عيناي تدمع كلما غنّت فيروز "وحبة من ترابك بكنوز الدني" لأنني فعلاً أحببتُ ذلك اللبنان، لبناني.لبنان، ذلك البلد الصغير الجريح كان جميلاً بجرحه، بتكاتف أبنائه كلما " تطّلع فوق السفح عدوان". عدة شعرات شائبة ذكرتني بعدد المرات التي حملتُ فيها طنجرة الأرز وكيس العدس والصابون وعلبة الطون والحرام والدواء مع الكثير من أصدقائي لنساعد سرباً من النازحين هجرتهم أطماع الجار الأول أو عنجهية الجار الآخر أو نخفّف معاناة حاجّة فقدت منزلها، زوجها، إبنها أو قريبها.

كنا نسعد بذلك العمل، رغم خطورته في بعض الأحيان، ولكننا كنا نفخر ونعتز بذلك، كنا نفخر بإنسانيتنا، ونعتز بلبنانيتنا، في وجه كل محتلّ وغاصب، وكل طماع وراغب.تابعتُ النظر في المرآة، هناك بعض الشعيرات التي لم يصلها الشيب بعد. أعدتُ النظر وكأني بها تسألني عما نحن فيه الآن؟ هل لا زلنا نعاني من الجار الطمّاع والجار المتطاول والجار المؤذي؟ كأنها تخاف على لونها الأسود من بياض آت سوف يقتل عنفوانها وصباها.لا تخافي أيتها الشعيرات القليلة، لقد أصبح لدينا الآن مخزون هائل من العزة والكرامة، ومن البصر والبصيرة، لا تخافي يا شعيراتي.

ضحكتُ كثيراً وأنا أسرّح شعري عزةً وكرامةً، وقد أصبحنا قطعاناً يكره منا الجار جاره والأخ أخاه وتقرف منا آخر حضارات التتر والمغول وتنبذنا بلاد لطالما كنا أهم أسباب تميّزها وتطورها.بصر وبصيرة؟! نقف في طوابير الذل بانتظار غالون مازوت من محطة مهترئة أو حفنة دولارات يتصدّق بها تعميم مصرف كان قد سرقها منا أصلاً.بصر وبصيرة ونحن نشحد خبزاً وخميرة.جارنا المؤذي لم يحلم في يوم من الأيام أن يؤذينا كما آذينا نحن أنفسنا، وجارنا الطامع فينا لم يدُر في خلده يوماً أن نبيعه أنفسنا وأولادنا وأعراضنا من دون مقابل لنحقق له حلمه بتكوين إمبراطوريته وتمدّدها على أرضنا وأرض إخواننا.

كنا بلداً يطمع فيه الجار، فصرنا مطيّة يشمت فيها الجار، كما القاصي والداني، فهنيئاً لنا بعزة كرامة وبصر وبصيرة مفقودة.غداً سأحلقُ رأسي وأسكت شعيراتٍه اللئيمة.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: