في غابة الواقع: كيسنجر في غزة… تأملات في الواقعية الفلسطينية

w980-p16x9-2023-11-30T015129Z_1401352997_RC2DN4A8K572_RTRMADP_3_PEOPLE-HENRY-KISSINGER-1

يتصاعد دخان التاريخ فوق قطاع غزة، حيث تتشابك طموحات العيش مع مخالب الخوف، وتتحوّل “أرض البرتقال” إلى رقعة شطرنج سياسية قاتمة. وفي زوايا هذا المشهد المضطرب، نتساءل: ماذا لو كان هنري كيسنجر، ذاك العملاق الواقعي في مجال العلاقات الدولية، قائداً لدفة المقاومة الفلسطينية؟ كيف سيواجه إسرائيل برؤيته القاسية التي ترى القوة والبراغماتية، هي لغة التفاهم الوحيدة في غابة السياسة؟

لا ضرورة للدخول في متاهات الافتراضات والسيناريوهات، لكن لنغوص معاً في فلسفة الواقعية السياسية على طريقة كيسنجر، ونستكشف كيف يمكن تطبيقها على الواقع الفلسطيني المعقد. يؤمن كيسنجر أن “الدول كلها في صراع مستمر”، وأن “القوة هي العملة المتداولة الوحيدة على مسرح العلاقات الدولية”. بعيداً عن الأوهام الأخلاقية، يرى أن الدول تسعى بطبعها، إلى تعظيم قوتها ومصالحها الوطنية، وأن الصراع بينها حتمي. وهذا ما قد يدفع “كيسنجر الفلسطيني” نحو استراتيجية دفاعية صارمة، تعتمد على ردع محسوب، لا خوض في حروب استنزاف لا طائل منها كما يجري اليوم. صواريخ دقيقة يمكنها استهداف البنية التحتية الإسرائيلية بعناية، لا قصف عشوائياً يجرّ ويلات أكبر.

ولكن الواقعية لا تعني القوة فحسب، بل هي فن اللعب على صفيحة مصالح متشابكة. سيعلم كيسنجر أن إسرائيل، برغم قوتها، تحتاج إلى استقرار على حدودها. عندها قد يرى ضرورةً لتقديم تنازلات مؤلمة، حدود تعديلات هنا، وترتيبات أمنية صارمة هناك. إنه بيعٌ لأجزاء من الحلم الفلسطيني، لكنه قد يكون في نظر الواقعي المتمرس، ثمنٌاً زهيداً مقابل تأمين البقاء والتنمية.

أما على الصعيد الداخلي، فسيعرف “كيسنجر الفلسطيني” أن قوة الفلسطينيين تكمن في وحدتهم وصلابتهم السياسية. سيعمل على توحيد الفصائل الفلسطينية تحت مظلة موحّدة، بعيداً عن الصراعات الأيديولوجية الضيقة. كما سيدفع نحو بناء مؤسسات فعّالة تحارب الفساد، وتكرس جهودها لتنمية البنية التحتية واستعادة الأمل في نفوس الغزاويين وأبناء الضفة الغربية. غزة قوية ومستقرة لن تكون عدواً لإسرائيل، بل شريكاً مضطراً ربما، لكن شريكاً في النهاية!

هل ستحقق هذه الاستراتيجية الواقعية السلام التام المنشود؟ على الأرجح لا. ستكون هدنةً هشة، سلامٌ باردٌ مبني على الحسابات لا على المشاعر. لكنه بالنسبة لغزة التي تعاني ويلات الحروب والحصار، قد تكون خطوة أولى على طريق طويل وشاق نحو الاستقرار والبناء. ستبقى أصوات الشهداء تتعالى، وستظل جراح الأقصى مفتوحة كما هو الحال اليوم، لكن ربما، وفي ظلال هذا السلام البراغماتي، ستنشأ فرصة لبناء مدارس للأطفال، ومستشفيات للمرضى، وبيوت للعائلات التي تشرّدها القنابل.

لن ندعي امتلاك الحقيقة المطلقة، ولا نرغب في تزييف الواقع المرير بمساحيق الخيال. لكننا أردنا، من خلال استحضار أفكار كيسنجر، فتح نافذة على وجهة نظر قد تبدو صارمة وقاسية، لكنها تحمل في طياتها جرعة من البراغماتية الضرورية في ظروف سياسية عصيبة. ففي لعبة القوة الإقليمية، قد لا يكون الحمام الزاجل رمزاً للسلام، بل صاروخاً موجهاً بدقة، يحمل رسالة واضحة للعدو: “نحن هنا، وسنبقى ندافع عن وجودنا بشروطنا القاسية، ولكن بشروطنا”.

فهل هذه هي الواقعية الفلسطينية الممكنة؟ لا ندري، لكن الأكيد أننا بحاجة إلى صيغة من مبدأين لتخليص ما تبقى من غزة: واقع يفرض نفسه بقسوة؛ أي القبول بحق إسرائيل بالوجود والأمن، وحلم لا يموت أبداً؛ أي حلم إقامة دولة فلسطينية متقبلة للعيش بأمان وبجوار إسرائيل. وإلا استمر النزف في غزة إلى ما لا نهاية، أو ربما إلى نهاية ما تبقى من حلم فلسطين!

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: