لا تزال تحليلات ومقالات ومواقف سياسيي وبعض أكاديميي وإعلاميي وصحافيي أبواق ما يُسمى بمحور المقاومة والممانعة يصرّون على إمعانهم في إسقاط حالتهم النفسية وآمالهم على الاتفاق السعودي- الإيراني الواضح المعالم والأهداف.
ثمة البعض ممن لا يريد أن يفهم حقيقة اتفاق بكين ويسترسل كل يوم في تظهير تأثيرات خيالية لاتفاق بكين على محوره وحزبه ونهجه، والأدهى أن مَن يطبّل لاتفاق بكين، وفق ما يراه انتصاراً لمحوره ولدور ميليشيات إيران في المنطقة وفي طليعتهم حزب الله في لبنان، يتجاهل عمداً وكلياً ما جاء في الاتفاق نفسه من بند وقف دعم إيران للميليشيات ووقف التدخّل في شؤون دول المنطقة الداخلية، وصولاً الى إعلان جدّة الذي رفض في فقرة خاصة منه تشكيل الجماعات والميليشيات المسلّحة خارج نطاق مؤسسات الدولة.
تلك النصوص والعبارات إن لم تكن تستهدف وكلاء إيران في المنطقة فمن عساها تستهدف؟
بالأمس وفي ذكرى ما سمّي بالتحرير في ٢٥ أيار، تسابق مسؤولو حزب الله وأبواقه في الكلام عن بقاء المقاومة وتعاظمها انطلاقاً من إيران، ولم يظهروا في كلامهم أي خجل أو حرج تجاه نصوص اتفاق بكين وإعلان جدّة، وكأن ما يحصل في التقليم من تفاهمات واتفاقات لا تأثير له على وكلاء إيران أو حتى على إيران نفسها.
ويأتي موقف مرشد الثورة في إيران علي خامنئي الأخير ليزيد على الغموض غموضاً بكلامه عن اأن المرونة السياسية لا تعني التخلّي عن المبادىء التي تتمسّك بها الجمهورية الإسلامية في إيران، مشيراً الى أن المصلحة قد تتطلب مرونة في بعض الحالات.
هذا الكلام الصادر عن رأس النظام الإيراني ومن أبرز وعملائه في المنطقة حزب الله، يدعو للتساؤل عن مدى جدّية طهران في التقيّد بمقتضيات اتفاق بكين وإعلان جدة في الشق الميليشياوي والتدخّلي في شؤون الدول العربية.
منذ فترة وغداة اتفاق بكين حول عودة العلاقات الديبلوماسية بين الرياض وطهران، اذا بمظاهر وظواهر وأحداث تتكاثر ذاهبة عكس المنطق والنهج الإيجابيين المفترض أن يسودا المرحلة الحالية : فبموازاة ما يُشاع ويُقال عن مرحلة هدوء وتراجع للتصعيد والتوتر في المنطقة وانفتاحها على تفاهمات وربما تسويات كما يقول البعض نتيجة اتفاق إيران والسعودية، نشهد بالعكس تصرفات تدعو للتشكيك حول جدّية إيران ووكلائها في الالتزام بمقتضيات اتفاق بكين وإعلان جدّة.
آخر هذه التصرفات المشبوهة كان إقدام الحرس الثوري الإيراني على احتجاز ناقلة نفط ترفع علم جزر المارشال لتُضاف الى لائحة الاستفزازات الإيرانية التي لا علاقة لها بمفاعيل اتفاق بكين،
هذا من دون أن ننسى إقالة القيادة الإيرانية العليا، غداة توقيع اتفاق بكين، للمفاوض والممثل الرسمي الإيراني علي شمخاني واستبداله بأحد الضباط الكبار في الحرس الثوري الإيراني ، وقبل ذلك مناورات حزب الله في جنوب لبنان، وصولاً الى الهجوم الحوثي على آل سعود والدعوة لمحاكمتهم وإزالتهم من الوجود تحقيقاً لما يرونه تحريراً لمكة المكرّمة والمدينة المنوّرة والأماكن الإسلامية المقدسة من الشرك والكفر، مروراً بما كُشف من استمرار تدفق السلاح والمخدّرات للحوثيين من إيران، والحرس الثوري لتصدير المخدّرات في ما بعد الى السودان ودول القرن الأفريقي.
كل هذه الوقائع لا تشير أقله الى الآن الى أن اتفاق بكين يسير بالاتجاه الصحيح إيرانياً، وقد ضاعف هذا الاعتقاد لدينا انقلاب نظام الأسد بعد عودته الى دمشق قادماً من قمة جدّة على شروط ومتطلبات القمة العربية ومقررات جامعة الدول العربية، رغم وجود توقيع النظام ووزير خارجيته، سواء في لقاء عمّان أو في اجتماع الجامعة العربية والقرار ٨٩١٤، وصولاً الى مقررات قمة جدّة أو ما عُرف بإعلان جدّة، فأين أجواء التفاهمات في المنطقة؟ وكيف يمكن وصف ما يحصل بأنه ترجمة لتلك التفاهمات؟
الى الآن، أفرزَ اتفاق بكين تعيين سفراء بين الرياض وطهران من دون أي شيء آخر ،
وبالتالي فإن الكثير منتظرٌ بعد من إيران بموجب القرار العربي ٨٩١٤ وإعلان جدّة، كما أن الكثير منتظر من نظام الأسد ضمن منطق الخطوة مقابل الخطوة، فيما وزير خارجيته فيصل المقداد، متجاهلاً توقيعه في الجامعة العربية وتوقيعه على بيان قمة جدة يعتبر علناً أن سوريا طبّقت القرار الأممي ٢٢٥٤ وأن لا مانع من عودة النازحين، وأنها طبّقت القرار العربي ٨٩١٤ بحيث أن مَن يستمع الى تصاريح وبيانات هذا النظام الكاذب يعتقد للحظة أن الخلافات كلها حُلّت، وأن المنطقة بألف خير، بينما نلاحظ أن لا شيء طبّقته طهران باستثناء المواقف الإعلامية والدعائية الغوغائية الفارغة الى الآن .
وانطلاقاً من مجمل هذا الحقائق كيف يطلق “جهلة” محور المقاومة والممانعة كما يطلقون على أنفسهم تحليلات إيجابية حول تأثيرات اتفاق بكين والاتفاق نفسه يعاني من خروقات وعدم انضباط إيراني واضح في مختلف نواحي المنطقة باستثناء فتح سفارات، علماً أن الخطأ الشائع المرتكَب حتى في الإعلام المناهض لمحور إيران عن غير قصد يستخدم عبارات المصالحة والتسوية والترتيبات في حديثهم عن اتفاق بكين ومفاعيله الإقليمية، في لحظة تشهد فيها المنطقة تسارعاً في التطورات الدراماتيكية الذاهبة باتجاه تملص طهران من مفاعيل اتفاق بكين الإقليمية بحجة مواجهة العدو الصهيوني أي دولة اسرائيل كما جاء في اتفاق ترسيم الحدود البحرية اللبناني- الاسرائيلي والذي باركه حزب الله وطهران راعيته.
لذلك فإن اتفاق بكين لا يزال أمام الاختبار ولم يرقَ بعد الى مرحلة التطبيق الا جزئياً جداً، فكفى زرع الجهل والغش و ذر الرمال في عيون الناس والرأي العام، فلن يكون هناك التزام إيراني طويل الأمد لأن الحرس الثوري القابض على قيادة إيران لن يقبل بالتخلي عن دوره المزعزِع لاستقرار المنطقة، واستطراداً كفى في لبنان خصوصاً تصوير ما حصل في بكين بأنه “سيَشيل الزير من البير” لأن اللبنانيين وحدهم مطلوب منهم انتخاب رئيس للجمهورية يتوافق عليه اللبنانيون ولأنهم هم وحدهم مسؤولون عن إنقاذ بلدهم من دون انتظار كلمة سرّ لن تأتي أقله في الأمد القصير والمتوسط، لأن الكل في المنطقة في هذه المرحلة يبحث عن تحسين شروطه ومواقعه ولا أمد يبالي بلبنان كأولوية آجلة لا أفضلية لها حالياً على أجندة القوى الإقليمية.
