شهد يوم 29 تشرين الثاني 2023 غياب وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية السابق هنري كيسنجر عن عمر ناهز المئة عام …اعوام حفلت باحداث هامة درامتيكية ساهم كيسنجر نفسه بصياغة وصناعة الجزء غير اليسير منها بدهاء الدبلوماسي المكوكي المتنقل جغرافيا وسياسيا من اقصى اليسار الى اقصى اليمين.
بالمقابل حضر في 7 تشرين الثاني 2023 الموفد الاميركي آموس هوكستين “الدبلوماسي المكوكي” الشاب في مهمة “تبريدية” للجبهة اللبنانية الاسرائيلية بعد نجاح مهمته في انجاز الترسيم البحري بين الدولة اللبنانية والدولة الاسرائيلية بمباركة ايرانية حزب الهية.
تكاد القواسم المشتركة بين الشخصيتين المذكورتين تطغى على الفروقات وهذا ما حفّزنا على سبر أغوارها واستخلاص العبر والمعاني منها سياسيا دبلوماسيا محليا اقليميا ودوليا.
هنري كيسنجر اميركي الجنسية يهودي الديانة حريص على مكانة الدولة الاسرائيلية ومصالحها وأمنها حرصه على مصالح الولايات المتحدة الاميركية, شانه شان آموس هوكستاين اليهودي الأميركي الذي خدم في “جيش الدفاع الاسرائيلي” ولا يقل حرصه على المصالح الاسرائيلية عن حرص سلفه كيسنجر.
كثيرة هي الاثباتات والاتهامات والروايات التي تحدثت وما زالت تساق حول دور هنري كيسنجر السلبي في منطقة الشرق الاوسط وعن خطته لتفتيت وتقسيم الدول العربية واخذها بالتقسيط خدمة لتفوّق دولة اسرائيل ومحافظةً على أمنها…وخير مثال هو دوره في حرب تشرين 1973 وتحويله انتصار مصر وسوريا الى استنزاف عسكري وسياسي لهاتين الدولتين ادى فيما بعد لاتفاقية كامب دافيد بين مصر واسرائيل وخروج السادات من الحضن العربي…
كما في دور كيسنجر في تثبيت هدنة وتهدئة طويلة الامد في الجولان السوري على الحدود الاسرائيلية ويخبر نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام كيف تفاجأ هنري كيسنجر بقبول الاسد باتفاقية وقف اطلاق النار بعد حرب تشرين والذي أعطى مكسبا طويلَ الامد لدولة اسرائيل.
تتشابه الاتهامات التي سيقت بحق كيسنجر في الماضي البعيد مع الاتهامات التي سيقت بحق هوكستين في الامس القريب…وافضل مثال هو في الحفاوة التي استقبلته بها الممانعة في بداية مهمته عبر مقال في صحيفتها “الاخبار” تاريخ 21 تشرين الاول 2021 تحت عنوان:”في بيتنا عدو: قاطعوا «الوسيط» الإسرائيلي”
يفصّل مقال صحيفة الممانعة كيف يخدم “الوسيط” السياسة الاسرائيلية الصهيونية كونه ولد في “الكيان” وتعلم فيه وخدم في جيشه وحارب اللبنانيين في اجتياح 1982 ليعتبر كاتب المقال الممانع ما يقوم به الوسيط “مهمة تجسسية” لصالح العدو.وليخلص في النهاية ” بأن ما يجري اليوم من مفاوضات حول ترسيم الحدود بشكلها الحالي يمثل فضيحة أخلاقية ووطنية تجب مقاومتها والتنصل من أي نتائج تصدر عنها”
ترافق هجوم أخبار الحزب مع تصاريح مماثلة لقيادات حزب الله اذ قال امين عام الحزب السيد حسن نصرالله في 13 تموز 2021: “الوسيط الأميركي آموس هوكستين لا نعتبره وسيطًا بل طرف يعمل لمصلحة اسرائيل ويضغط على الجانب اللبناني”كما وصف نائبه الشيخ نعيم قاسم ورئيس كتلته النيابية النائب محمد رعد في وقت لاحق هوكستين ب”الوسيط غير النزيه”
في الواقع على الأرض وفي والبحر وُقِّع الاتفاق بين دولة اسرائيل ودولة لبنان مع آيات الشكر والتبريك من المسؤولين في الدولة اللبنانية والدولة الايرانية ودويلتها في لبنان نتيجة لوساطة “الوسيط الصهيوني” المولد والجنسية والتوجه واعتبر الممانعون الاتفاقية “انتصارا كبيرا وانجازا عظيما”.
مع التنويه بان الوسيط الاميركي تفاجأ بتراجع لبنان عن الخط 29 لصالح الخط 23 تماما كما تفاجا كيسنجر بتراجع الاسد في 1973.
في التشابه نذكّر كيف شجّع كيسنجر حافظ الاسد على تحقيق حلم هذا الأخير بدخول جيشه الى لبنان باتفاق مع اسرائيل في العام 1976 لتضرَب الفصائل الفلسطينية وتتفرغ “الدبلوماسية الكيسنجرية المكوكية” للتحضير لاتفاقية السلام بين مصر واسرائيل….
نتذكر بالمقابل المكسب الذي حصّله الاسرائيلي والايراني والممانع اللبناني من دبلوماسية هوكستين المكوكية مع ارجحية للمصلحة الاسرائيلية صاحبة السبق في الهدؤ والتنقيب والاكتشاف والضخ من حقل كاريش الى جمهورية مصر العربية والدول الأوروبية.
مما تقدم وورد يكاد ينطبق ما قاله المتنبي لسيف الدولة على ما قد تقوله الممانعة للوسيطين كيسنجر -هوكستين:
“يا أَعدَلَ الناسِ إِلّا في مُعامَلَتي فيكَ الخِصامُ وَأَنتَ الخَصمُ والحَكَمُ”