على الرغم من دعوة أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله الى إبقاء عيوننا شاخصةً الى الميدان لا الى ما يُقال، وعلى الرغم من “الوعود الصادقة” التي أُغدقت على الناس في خُطابَي نصرالله في 3 و11 تشرين الثاني من العام الجاري، ترانا ملزمين بقراءة ما اختبأ أو ما خُفي عن عمدٍ في كلام نصرالله في مواضيع الساعة، وما قد يُخبّأ لنا من مفاجأت أو تطورات إيجابية كانت أم سلبية.
في أول بيان لقائد “كتائب عز الدين القسام”، دعا محمد الضيف “المقاومات” في لبنان وسوريا واليمن والعراق الى الالتحام بعملية “طوفان الأقصى”، وبعد البيان دأب المسؤولون في تلك المقاومات على تكرار التزامهم بوحدة الساحات وتشبيكها والتحضير للحرب المفتوحة نصرةً لغزة على طريق تحرير فلسطين والقدس الشريف وإزالة إسرائيل من الوجود…وكما كانت تؤكد مصادر الحزب دائماً أن هذا الأخير بصدد فتح حرب شاملة ومفاجآت مخبّأة للعدو بمجرد بدء الهجوم البرّي على غزة.
في إطلالته الأولى في 3 تشرين الأول، إعتبر نصرالله أن تطور الأعمال الحربية وتدرّجها وتدحرجها يفرضه عاملان إثنان:استمرار إسرائيل باعتداءاتها على المدنيين في غزة وتطور الجبهة هناك، والعامل الثاني هو خروج إسرائيل عن قواعد الاشتباك وتعرّضها للمدنيين في لبنان.وطبعاً غابت “وحدة الساحات” في الخطاب الأول كما في الثاني، كما غابت عن أدبيات مسؤولي الممانعة وحزب الله لتصبح الحرب المفتوحة “ارتقاء في العمليات” مرتبطاً بالتصعيد القائم في غزة ولبنان من دون أن “ترقى” حتى الآن الى أكثر من التقيّد بقواعد الاشتباك.
وفي نظرة الى “جبهات المساندة” حسب التسمية الجديدة لنصرالله، نرى بأن أمين عام الحزب وصف المشاركة اليمنية بالاستثنائية، وأن الحضور اليمني الداعم لفلسطين لا مثيل له، وأنه أعطى دعماً معنوياً كبيراً جداً للمقاومين الفلسطينيين الذين يطلبون هذا الدعم.
وفي فحص دقيق لتلك المشاركة، نرى بأنها اقتصرت على مسيّرات وصواريخ سقط معظمها في البحر أو في مناطق في الدول العربية المحاذية أو بأحسن الأحوال أصاب القليل منها الأراضي المحتلة من دون الانخراط الفعلي، والذي لا يشكّل أي خطر لا على اليمنيين ولا الإسرائيليين، فيما
اقتصرت جبهة المساندة في العراق على “المشاغبة” على الأميركي من دون أي “إقلاق” فعلي أو إشغال حقيقي للإسرائيلي المتمادي في هجومه الجوّي والبحري والبرّي على غزة والضفة ولبنان.
أما على الجبهة السورية اللصيقة بالعدو الإسرائيلي، فقد برّر نصرالله الانكفاء السوري والإكتفاء بمحدودية دوره على الجبهة بقوله:”لا أعتقد أن أحداً يطالب سوريا بتقديم أكثر مما تقدّمه وهي التي تخرج من حرب كونية…”كما أعلن الاكتفاء بدور سوريا كونها “تحتضن المقاومين وتتحمّل تبعات هذا الموقف”
لنصل الى الجبهة المشتعلة “غير المفتوحة” في الجنوب اللبناني، فبعد أن قال نصرالله في 3 تشرين الثاني بأن كل الاحتمالات مفتوحة، وبعد أن هدّد بإمكانية لا بل حتمية تدحرج الأمور الى الحرب الشاملة، وبعد أن ربطها بمسار الحرب في غزة والاعتداءات الإسرائيلية على المدنيين في الجنوب اللبناني، نراه يضيف في 11 من الجاري في خطابه الثاني الى مآثر اعتداءات العدو على غزة “الاعتداء العلني والفاضح والمتبنّى رسمياً على المستشفيات وزيادة بأعداد الشهداء وأكثرهم من الأطفال والنساء، وهذا لم يتوقف ولم يهدأ ولم يتراجع بل كان يزداد يوماً بعد يوم”، من دون أن يشير الى ما حذّر منه ألا وهو التوغّل البرّي على تخوم مدينة غزة وفي قلبها من كل المحاور الجنوبية والغربية والشمالية.
وهنا نُسجّل بأن “الأمور لم تتدحرج” على الجبهة كما حذّر منه أو توقعه نصرالله في خطابه…
وعلى الجبهة في الجنوب اللبناني، أمعنت إسرائيل منذ خطاب 3 تشرين الثاني الجاري وحتى كتابة هذا المقال بتخطّي الخطوط المرسومة في قواعد الاشتباك بتعرضها للمدنيين وبقصفها مناطق بعيدة عن تلك القواعد، ولم يردّ حزب الله بخرق مماثل ولم يدّعِ حتى شرف إطلاق الصواريخ التي تخطّت القواعد والتي تتبناها كل من كتائب القسام-لبنان وقوات الفجر-الجماعة الإسلامية…
وهنا لا بد من طرح الآتي:هل أدى “إشعال” الجبهات المساندة البديلة عن “وحدة الساحات” الى وقف العدوان أم في حدّه الأدنى الى تخفيفه سواء في غزة أو الضفة أو حتى في لبنان على ما “بشّر” و”توقّع” وحلّل السيد حسن نصرالله وبقية الممانعين من سياسيين وإعلاميين؟
هل نحن أمام فدرالية ” كانتونات جبهات المساندة” مع تفاوت فاضح وفاقع بينها في الأدوار والتورّط والانخراط تنسق نيرانها “الحكومة الفدرالية” في إيران وتضبط إيقاعها على مسار مفاوضات تحت الطاولة وفوقها مع أميركا والغرب والخليج وب”الوساطة” القطرية مع إسرائيل؟
وهل تحوّلت جبهات المساندة بدورها الى “منصات” لبعث الرسائل المعادية كما “التودُّدية” من الadmin إيران الى ال friends اللدّودين أي أميركا والغرب وإسرائيل؟
هنا تستحضرنا براغماتية نصرالله وواقعيته وطوباويته في مقاربته لمعركة محوره “على طريق القدس” بتكرار ما قاله في خطابه الأول عن أن الانتصار الكبير يكون بتراكم النقاط لا بالضربة القاضية وأن” كل الشعوب وحركات المقاومة إحتاجت دائماً الى سنوات طويلة حتى الوصول الى نقطة يكون فيها المحتل مجبراً على الإقرار بالهزيمة”…
وبطوباوية ملحوظة ولاختزال “السنوات الطويلة” و”تعجيل النصر”، كان للسيد في 11 تشرين الأول سبيل آخر مختلف عن القوة و”البندقية” إذ قال: “أدعوكم الى الدعاء بتعجيل النصر واختزال الزمن … لا تستخفوا بالدعاء”…وهنا نستذكر ما كان واجه به نصرالله الرئيس الأميركي دونالد ترامب عند اعترافه بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل وعن كيفية مواجهة تهويدها، إذ دعا في 15 آب 2021 : “على كل مَن يعنيهم هذا الأمر، كل إنسان حر وشريف في العالم، وعلى مدى أيام بل على مدى أسابيع، أن يجلسوا على مواقع التواصل الاجتماعي ليدينوا ترامب وما قام به، ويؤكدوا أن القدس عاصمة أبدية لدولة فلسطين، ويرفضوا تهويد القدس… إن نشر مئات ملايين التغريدات مثلاً، ومئات ملايين المواقف على مواقع التواصل الاجتماعي وخلال أيام وخلال أسابيع، هذا عندما ينعكس على الإدارة الأميركية وعلى الكيان الصهيوني، سيحوّل الفرحة إلى غمٍّ وسيدركون أنهم يواجهون رأياً عاماً كبيراً وعظيماً جداً”