لم يأتِ التصعيد الإسرائيلي والتهديد بقصف الضاحية الجنوبية في بيروت من فراغ، بل جاء نتيجة لحاجات داخلية وعوامل إقليمية ودولية مقلقة لنتنياهو إلى حدٍّ ما.
في ما يخص الحاجات الداخلية، فإن نتنياهو أسيرُ “الحرب الدائمة” للتفلت من الصراعات داخل حكومته وضمن الائتلاف الحاكم. حاجته إلى حربٍ ضرورية، وفق شعاره “إسرائيل أقوى”، تنبع من رغبته الشخصية في أن يصبح بطلاً في توسيع حدود إسرائيل بما يتناسب مع رؤية مؤسس الكيان، بن غوريون. من هنا يأتي الإصرار على عدم وقف العملية العسكرية في غزة، واستمرار حالة الاستنزاف مع لبنان حتى “سحق” حزب الله بالكامل.
أما في ما يتعلق بالعوامل الإقليمية والدولية، فثمّة خشية من تقدّم المفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني، كما أن الإدارة الأميركية تسعى إلى إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وإسرائيل ترى أن لها دورًا أساسيًا ومؤثرًا في كليهما. فهي تعتقد أن معالجة الملف النووي الإيراني لا يمكن أن تتم إلا من خلال قصف مواقع داخل إيران. كما أن زيلينسكي، حاكم أوكرانيا، يُعدّ حليفًا استراتيجيًا لها في ظل الحاجة إلى تقويض الدور الروسي على الساحة الدولية.
هذه المخاوف، من منظور جيواستراتيجي، قد تكون مبرَّرة بالنسبة للإسرائيلي، ما دام العقل الصهيوني قائمًا على فكرة التوسع. وهو الآن ينتقل من فكرة “المناطق الآمنة” في جنوب لبنان أو قطاع غزة إلى مشروع “الدول الآمنة”. فبعد مصر، والأردن، والسلطة الفلسطينية، تقترب سوريا من التطبيع وتوقيع اتفاقية سلام. وبهذا المنوال، لن يصمد لبنان طويلًا، وسيلتحق بالقافلة، لتصبح “دول الطوق” ضامنة للأمن بدلًا من أن تكون مصدر قلق تاريخي.
على الجانب الآخر، تقترب إيران من توقيع اتفاق نووي مع إدارة ترامب (في إشارة ربما غير دقيقة زمنيًا)، وهي تبدي إشارات على استعدادها للتخلي عن منطق التوسع خارج حدودها. لكن إسرائيل وحدها تدرك أن التنازلات الإيرانية، مهما بلغت، ستقف عند دعم فلسطين والالتزام بحزب الله. والمفارقة أن التهديد الفعلي لأمن إسرائيل لن تتخلى عنه إيران.
وقد تجلى شكل الامتعاض الإسرائيلي من التطورات الأخيرة في قلب الطاولة مع لبنان، وقصف الضاحية الجنوبية، باعتبارها معقل حزب الله. فبحسب المعلومات، حملت زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي مضامين أساسية، أبرزها الاستعداد لفتح صفحة جديدة مع لبنان، تقوم على التعامل من دولة إلى دولة، لكن دون التخلي عن حزب الله. كما لم تُسجل لقاءات للوزير الإيراني مع الفصائل الفلسطينية، مع تشديد واضح على الطابع الرسمي في العلاقة مع لبنان.
الثورة الإسلامية في إيران ترجمت فكر الخميني عبر تأسيس حزب الله في لبنان عام 1982، حتى بات الحزب اللبناني “دُرّة تاج” محور إقليمي شيعي طالما سعت إيران إلى قيادته عبر الحروب والنزاعات. وهذه العلاقة العضوية لن تدفع إيران إلى التخلي عن شيعة لبنان، بالمعنى الفقهي والسياسي، ما يُفضي إلى الاستنتاج بأن إيران قد تعقد أدق وأخطر التسويات بعد خسارتها سوريا، لكن ليس على حساب شيعة لبنان، ولا على حساب حزب الله.