اهتزّ لبنان أمس على ارتجاج أمني وسياسي متزامن، إذ شكلت الغارة الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية حدثاً مفصلياً يتجاوز حدود العملية العسكرية التقليدية، فالاغتيال المركّز لرئيس أركان حزب الله لم يكن تفصيلاً، بل رسالة مباشرة إلى الداخل والخارج معاً، في لحظة يراهن فيها لبنان الرسمي على مساعي التهدئة الدولية وعلى التوازنات الإقليمية التي يفترض أنها تشكل مظلة حماية غير معلنة. لكن الضربة الأخيرة بدت وكأنها تقول للبنان إن لا مهل إضافية، ولا خطوط حمراء، ولا انتظار لاتصالات ديبلوماسية أو زيارات رفيعة المستوى.
مصادر ديبلوماسية مطلعة تؤكد لموقع LebTalks أن إسرائيل لا تأخذ في حساباتها أي جدول لبناني، ولا أي اعتبارات داخلية، سواء كانت زيارة البابا المرتقبة أو الترتيبات الديبلوماسية التي حاولت بيروت تفعيلها في الأسابيع الماضية، إذ تتصرف تل أبيب باعتبارها صاحبة الإيقاع الوحيد، ترفع مستوى الضغط متى تشاء وتخفضه متى تشاء، وتتعامل مع لبنان وكأنه فقد القدرة على التأثير في مسار الأحداث. وتضيف المصادر أن إسرائيل باتت تتصرف وكأن الساحة اللبنانية أصبحت مفتوحة أمام كل الخيارات، وأن ميزان الردع الذي كان قائماً قبل سنوات لم يعد يشكل عائقاً أمام عمليات من هذا النوع.
سياسياً، لا تبدو الساحة أقل فوضوية، فقانون الانتخاب، الذي يفترض أن يكون أحد الأسس لإعادة إنتاج السلطة وإطلاق مسار سياسي جديد، يُترَك في الظل بلا أي تقدم فعلي. النقاشات تدور في حلقة مفرغة، والمداولات جافة، وكل الأطراف تمارس لعبة الانتظار. وفي هذا السياق، تكشف مصادر نيابية مواكبة عن أن رئيس مجلس النواب نبيه بري لا يمتلك النية لدفع القانون نحو الإقرار، وأن مناخ الترقيع السياسي لا يزال يطغى على المشهد، وسط افتقاد أي صيغة جامعة أو إرادة جدية لمعالجة تناقضات القانون الحالي.
الأحزاب بدورها تعيش حالة ضياع سياسي، إذ لم تتبلور حتى اللحظة أي تحالفات حقيقية، وخصوصاً في ما يتعلق بالدائرة 16 التي تبقى عالقة بلا اتفاق واضح. وبدل أن تتقدم بعض القوى السياسية نحو رؤية انتخابية جديدة تواكب حجم الأزمة، تجد نفسها منشغلة باستراتيجية مختلفة بالكامل، محاولة إعادة المغتربين إلى لبنان للاقتراع محلياً. هذا التوجه، بحسب مصادر متابعة، ليس خياراً عابراً، بل خطوة اضطرارية بعدما بات واضحاً، من خلال أعداد المغتربين المسجلين المنخفضة، أن الحماسة لدى اللبنانيين في الخارج تكاد تكون معدومة. هؤلاء فقدوا الثقة، ليس فقط بالطبقة السياسية، بل بجدوى المشاركة نفسها، بعدما تحول اقتراعهم في الدورة الماضية إلى مادة سجالية أكثر منه رافعة إصلاحية.
وفي وسط هذه الفوضى السياسية، تشهد الساحة النقابية اللبنانية حركة غير مسبوقة، إذ بدأت الانتخابات النقابية تتحول إلى ما يشبه ثورة "سيادية"، بحسب المتابعين. الحركات النقابية الجديدة، خاصة بين الشباب والمهنيين المستقلين والأحزاب السياديين وعلى رأسهم القوات اللبنانية، تسعى لاستعادة الصوت النقابي، وتطرح نفسها كقوة ضغط فاعلة. هذه الانتخابات أصبحت بمثابة قياس للرأي الشعبي الحقيقي، وتكشف عن رغبة عارمة لدى الشريحة المهنية في تحريك مؤسساتها. مصادر متابعة تؤكد أن السياديين يحققون تقدماً ملموساً، حيث تمكنوا من حصد نتائج حاسمة في نقابات أساسية مثل نقابة المهندسين ونقابة الصيادلة ونقابة المحامين بالإضافة إلى نقابة المعالجين الفيزيائيين، ما يعكس تصاعد نفوذهم وقدرتهم على إعادة تشكيل المشهد النقابي بعيداً من المحاصصة التقليدية، ويجعل منهم صوتاً مؤثراً يوازن القوى داخل القطاعات المهنية والمجتمع المدني.
وبعيداً من هذه الفوضى السياسية التي تلتهم الداخل، تأتي الرسائل الأميركية الثقيلة لتضيف طبقة جديدة من التعقيد، فإلغاء زيارة قائد الجيش رودولف هيكل إلى واشنطن لم يكن خطوة إدارية أو مسألة بروتوكول تأجل موعدها، وبهذا الإطار أكدت مصادر ديبلوماسية لموقعنا أن الإلغاء شكّل صفعة سياسية مباشرة للعهد، ورسالة واضحة إلى القيادة اللبنانية بأن الثقة الأميركية ليست في مكانها السابق. وتكشف المصادر عن أن واشنطن تشعر بأن هناك تلكؤاً لبنانياً في تنفيذ التزامات معينة، وأن الإدارة الأميركية تريد رؤية خطوات ملموسة قبل إعادة تفعيل قنوات الدعم والتنسيق على المستوى العسكري والسياسي.
وعلى خط المواعيد الدولية، تتبدد أيضاً فكرة زيارة الرئيس جوزاف عون إلى واشنطن، وتشير المصادر إلى أن صحيح أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أجاب بإيجابية حول إمكان حدوث الزيارة، لكن مصادر ديبلوماسية تؤكّد أن المسألة ليست بقرار فردي من ترامب، بل بقرار تتخذه الإدارة الأميركية بكل مؤسساتها، وهي اليوم أبعد ما تكون عن توجيه دعوة رسمية. وتشير المصادر إلى أن واشنطن تنتظر الكثير من لبنان، إصلاحات ملموسة، خطوات سياسية واضحة، وإعادة انتظام في المؤسسات. ومن دون هذه الشروط، لا زيارة قبل نهاية العام الحالي، وربما لفترة أبعد، ما لم تتغيّر المعطيات السياسية والأمنية في البلد.
هكذا يتشكّل المشهد، غارة إسرائيلية تغيّر قواعد اللعبة بعنف، قانون انتخاب متروك بلا حل في زواريب السجالات، ورسائل أميركية تقلب حسابات الحكم وتعيد رسم خطوط النفوذ.
لبنان يقف في منطقة خطرة، مكشوفاً أمام الخارج ومشلولاً في الداخل، بلا رؤية، بلا حصانة، وبلا قدرة على استعادة زمام المبادرة. وفي لحظة يتسابق فيها الخارج على إرسال رسائله، يبدو أن الداخل يعيش على وقع الإنكار، وكأن الوقت لا يزال يسمح بالمساومات الصغيرة.
إنه مشهد بلد يقترب أكثر فأكثر من نقطة التحول، وليس واضحاً بعد إن كان سيخرج منها أقوى، أم أكثر هشاشة من أي وقت مضى.