كتب جورج أبو صعب:
بعد زهاء نيف وعقدين من الزمن، نعيش اليوم مرحلة سقوط الشيعية السياسية تبعاً لسقوط مداميكها في المنطقة،
تلك الشيعية السياسية التي حكمت لبنان وتدخلت في الحرب الأهلية في سوريا وفي الحرب بين الحوثيين والمملكة العربية السعودية ودول المنطقة وبين الحشد الشعبي والأميركيين، باتت على شفير الضمور نتيجة عوامل جيو سياسية لم تبدأ بطوفان الأقصى ولن تنتهي بسقوط نظام بشار الأسد.
“الهلال الشيعي” تحطم عند محطتي سوريا ولبنان فيما العراق عالقٌ وهو يسارع الزمن بين إيجاد تسوية سياسية تجنّبه كأس الصدام والحرب والتدمير وبين عدم إغضاب الإيرانيين الذين ما يزال بإمكانهم خربطة الوضع في العراق.
اليمن الحوثي لم يعد ثقلاً استراتيجياً وجيو سياسياً في المنطقة ولا تهديداً للخليج وتحديداً للمملكة العربية السعودية، وقد خسر الكثير الكثير من القدرات والإمكانات وهو أساساً لا يتمتّع بنفس قوة حزب الله في لبنان ونظام الأسد الهالك،
من هنا باتت الشيعية السياسية محصورة بين لبنان وسوريا: في سوريا حسم الشيعة خيارهم وقد أيدوا الرئيس الانتقالي الجديد أحمد الشرع والسلطة الانتقالية التي تتركّز في البلاد قاطعين “حبل السرّة” مع النظام الإيراني ومعلنين تبرؤهم من ولاية الفقيه وعودتهم الى عروبتهم السورية، فيما في لبنان لا يزال تحديداً حزب الله أبعد ما يكون عن العودة الى لبنانيته والى الدولة اللبنانية.
في سوريا، حاولت إيران ولا تزال زعزعة الأمن السوري لكن سوريا وكلمة حق تُقال نجحت في أقل من فترة شهرين في إحلال نظام سياسي جديد وإيجاد رئيس لحكومة انتقالية جديدة وتحقيق انفتاح إقليمي ودولي كبير وهام، بينما لا نزال في لبنان ندور في الحلقة المفرغة وقد توصلنا الى انتخاب رئيس للجمهورية بفضل الضغط الإقليمي والدولي المنسَّق عبر اللجنة الخُماسية، التي لولاها لكنا الى الآن واقفين نستجدي رضى وموافقة الثنائي الشيعي وبخاصة حزب الله
مع الضغوط و التدخلات، توصلنا بعد سنتين من الفراغ الى انتخاب رئيس للجمهورية وتحت زخم تلك الانتخابات كلّف الرئيس نواف سلام تشكيل أول حكومة للعهد الجديد،
لكننا لا نزال نتخبّط في التأليف وحساباته الطائفية والفئوية والمذهبية التي لا طائل منها فيما الوطن ينتظر المساعدات الأجنبية من دول الخليج الشقيقة والبنك الدولي والعالم، الذي من أولى شروطه إزاحة حزب الله من السلطة وبالتالي عزله.
إيران من جهتها تريد زعزعة الأمن السوري كما الأمن اللبناني ويساعدها في مخططها وجود فصائل إسلامية سنّية متطرّفة على الحدود اللبنانية- السورية تعطيها الذريعة عبر حزب الله لاحتفاظه بسلاحه وشدّ العصب الحاضن للسلاح بحجة التهديد الإرهابي الداعشي لا سيما وأن الجيش اللبناني المطلوب منه الكثير الكثير لا يستطيع تلبية التواجد في كل الأماكن من الجنوب الى الداخل اللبناني الى الحدود الشرقية والشمالية …
يُضاف الى ذلك كله أن منطق المسايرة والمهادنة لا يزال ساري المفعول في لبنان تجاه الحزب الذي لم يعد قوياً ولا مؤثراً (باستثناء تأثير مَسيرات الموتوسيكلات) وهذا المنطق المتجلّي في قناعة جماعية بأن الحزب لا يزال قوياً وقادراً تعزّزه أبواق إعلام أصفر، إذ لم يقوِّ الحزب ولم يعوّمه أحد بقدر تعويمه من قبل قسمٍ من اللبنانيين الذين لا يزالون يعتبرون الحزب خطراً محاولين تعويمه سياسياً وهو المنتهي عسكرياً وقوةً وتأثيراً ونفوذاً .
في هذا الاطار، يبرز مسلسل التأليف بكافة نواحيه الغامضة والمتناقضة : ففي وقت نسمع الرئيس المكلّف نواف سلام من قصر بعبدا يرفض أية محاصصة وأي توزير طائفي حزبي وأي تخصيص وزارة لطائفة، نجد أن المعلومات تتقاطعُ في منح الثنائي الشيعي مطالبه وبخاصة حزب الله، عسى تلك المعلومات تكون خاطئة…الى هذا الغموض، يُضاف غياب موقف معارض قوي ضد الحزب عماده إعلان الفصل بين الثنائي والطائفة الشيعية وبدء المواجهة السياسية على هذا الأساس من خلال فتح باب التعاون والتحالف المباشر بين القوى المعارضة السيادية وقوى شيعية سيادية مستقلة لبنانية عربية صاحبة كفاءات وإمكانات وطنية في تمثيل الطائفة الشيعية الكريمة من خارج الثنائي والدفع باتجاه استماع الرئيس المكلّف الى تلك القوى الشيعية السيادية وإدراج أسماء لها في تسمية الشخصيات المؤهلة للتوزير.
لكن وللأسف، يُلاحظ أن بعض القوى السيادية المعارضة من نواب وتكتلات معينة لا تزال تراهن على تراجع الثنائي وذهابه الى المعارضة بدل المشاركة في أية حكومة، الأمر الذي تنفيه الوقائع المعلَنة أقله أشدّ النفي.
المعارضة “الجنتلمانية” (من مصطلح جنتلمن) لم تعد تجدي والبعض في المعارضة تراه لا يريد الذهاب الى أقصى حدود المواجهة السياسية والإعلامية مع الحزب ربما خوفاً منه وإما لوجود قناعة لا تزال راسخة بعدم ” كسر الجرّة ” مع الحزب رغم استكباره وعنجهيته تجاه سائر اللبنانيين،
فالخط الشيعي السيادي اللبناني المعارض للثنائي (كما فعل شيعة سوريا) أفضل أسلوب ونهج لتخطي عقد الثنائي اللبناني وتعقيداته وشروطه وهيمنته التي لم يعد لها أي أساس أو أي تفسير ،فالخط الشيعي السيادي الحرّ يُبنى عليه إن اعتمدته المعارضة السيادية لكسر القرار الشيعي المختطَف من الثنائي، وبدل مسايرة الثنائي المتسلّط فلنذهب الى فضاء الطائفة الكريمة الأرحب، فالسوريون ليسوا أفضل منا كلبنانيين والأخوة الشيعة السوريون الأحرار ليسوا أفضل من إخوتنا وشركائنا الشيعة اللبنانيين الأحرار …
المطلوب أيضاً من الأخوة الشيعة اللبنانيين السياديين ملاقاة إخوتهم شيعة سوريا بدعم من المعارضة اللبنانية السيادية لإعلان نبذ إيران وولاية الفقيه والمحور الإيراني في المنطقة … فشيعة سوريا فهموا أن لا دولة ولا قيام لنهضة سوريا في ظل وجود إيران والهيمنة والميليشياوية الإيرانية على سوريا، بينما في لبنان لا نزال نريد الشيء ونقيضه معاً: نريد الخروج من سيطرة إيران ونفوذها على لبنان ومستقبل اللبنانيين، وفي نفس الوقت نسعى لتوزير أزلام الحلف الإيراني ومحور ولاية الفقيه في لبنان …
الشيعية السياسية اذاً مترنّحة في سوريا كما في لبنان رغم محاولات التعويم السياسي الجارية عن قصد أو غير قصد، ولعل ثمة عاملاً بات من الجدير أخذه بالاعتبار للمرحلة اللاحقة ألا وهو التفكير الجدّي بإقفال السفارة الإيرانية في بيروت كما تمَّ في دمشق قطعاً لدابر التدخّل الإيراني في شؤون لبنان الداخلية من جهة، وتأكيداً منا كلبنانيين على الرغبة الصادقة في العودة للحضن العربي والرعاية الدولية والقطع مع الماضي.