كتب جوزيف بوهيا:
في المشهد السياسي اللبناني، كثيرًا ما يُستبدل النقاش الهادئ بالاتهامات الجاهزة، والوقائع بالحبكات الإعلامية. وفي الأيام الأخيرة، عادت أصوات تُحاول تصوير الدعوات إلى كسر احتكار التمثيل داخل طائفة معيّنة كأنها اعتداء طائفي، وتروّج لفكرة أن القوات اللبنانية تستأثر بالصوت المسيحي. هذا الخطاب ليس بريئًا؛ إنه وليد توتر سياسي وخوف من تغيّر موازين القوى أكثر مما هو انعكاس لواقع ملموس.
الوقائع الانتخابية الأخيرة تكفي لإسقاط هذه المزاعم. فالساحة المسيحية تعيش منذ عام 2005 منافسة حية بين تيارات وأحزاب متعددة، من القوات اللبنانية إلى التيار الوطني الحر والكتائب والمردة والمستقلين والطاشناق وغيرهم. هذا التنوع وحده يُثبت أن التعددية راسخة، وأن مقولة "الاحتكار" لا مكان لها إلا في خيال خصوم القوات الساعين لتعبئة جمهورهم وإحياء اصطفافات سقطت شعبيًا.
أما صعود القوات اللبنانية فليس صدفة ولا نتيجة غياب الآخرين، بل ثمرة عمل منظم ورؤية ثابتة. فالحزب الذي صمد في أصعب الظروف ورفض المساومة على مبادئه، بنى مؤسساته بهدوء واشتغل على التواصل المباشر مع الناس، من المدارس والجامعات إلى النقابات والهيئات المهنية. هذا الحضور الاجتماعي والسياسي أثمر ثقة متنامية وخطابًا واضحًا وواقعياً يلتقي مع نبض اللبنانيين وتوقهم إلى دولة عادلة وقوية.
اليوم، لم يعد اللبنانيون يبحثون عن زعيم يحميهم من الدولة، بل عن دولة تحميهم من الزعماء. وهنا تتجلى فكرة القوات اللبنانية التي لطالما رفعتها: لا خلاص إلا بمنطق الدولة، ولا كرامة من دون سيادة. تأييد الناس لهذا الطرح ليس تعصبًا حزبيًا، بل التقاء مع قناعة وطنية تترسخ أكثر فأكثر في وجدان اللبنانيين.
في المقابل، التعددية داخل أي مكوّن طائفي ليست جريمة بل عنوان الديموقراطية. فدعم مرشحين شيعة مستقلين في مواجهة الثنائي ليس استهدافًا ولا خرقًا، بل ممارسة ديمقراطية يكفلها الدستور ونظام النسبية الذي وُضع لتوسيع المشاركة السياسية. الجريمة الحقيقية تكمن في منع التنافس، بالترهيب أو التخوين أو الإقصاء القسري. من يخاف التعددية يخشى الحقيقة، ومن يُخوّن المختلف يعبّر عن خوفه من خسارة سلطته لا من ضياع الوطن.
مفارقة كبرى تكمن في محاولة تشبيه القوات اللبنانية بمن يمارس القمع والترهيب. القوات تنافس عبر صندوق الاقتراع والبرنامج السياسي، لا عبر التهديد والاغتيال. وذاكرة اللبنانيين ما زالت تحفظ أسماء ضحايا من داخل البيئة الشيعية نفسها، من هاشم السلمان إلى لقمان سليم، الذين اغتيلوا لأنهم اختلفوا بالرأي. تلك الجرائم هي التعبير الحقيقي عن منطق الإلغاء، لا المنافسة الديمقراطية.
ولعلّ من أبرز شواهد القوات على رفضها للإقصاء، دعمها خصمها التاريخي ميشال عون لرئاسة الجمهورية عام 2016، إيمانًا بضرورة استعادة التوازن الوطني، ثم تمسكها لاحقًا بخيار النائب ميشال معوض كمرشح رئاسي سيادي. هذه المواقف تؤكد أن الحزب يتحرك بمنطق وطني لا حزبي، واضعًا مصلحة الدولة فوق الحسابات الآنية.
والحقيقة أن القوات اللبنانية كانت هي الطرف الذي تعرّض للإقصاء أكثر من غيرها. فخلال عهد ميشال عون، جرى إبعادها عن معظم مفاصل الدولة ومواقع القرار، رغم تمثيلها الشعبي الوازن. كما فُرض عليها “فيتو” شيعي واضح حال دون تولّيها أي حقيبة سيادية أو أساسية منذ أكثر من عشرين عامًا، في مخالفة فاضحة لمنطق الشراكة والمناصفة. ومع ذلك، لم تنجرّ القوات إلى منطق المعاملة بالمثل، بل ظلّت ثابتة على خيار الدولة، تمدّ اليد ضمن إطار المؤسسات، وتؤمن أن المشاركة الوطنية لا تُبنى على الإلغاء، بل على احترام قواعد اللعبة الديمقراطية.
القضية الجوهرية ليست فيمن يحتكر الصوت المسيحي أو الشيعي، بل فيمن يحتكر الدولة نفسها. السؤال الحقيقي هو: كيف نبني دولة قادرة تفرض القانون وتحمي الجميع؟ من يهرب إلى الخطاب الطائفي يفعل ذلك لتغطية عجزه، لأن الأزمة الحقيقية تكمن في ازدواجية القرار والسلاح. والمطالبة بحصرية السلاح بيد الدولة ليست تحديًا لطائفة، بل دفاعًا عن فكرة لبنان وسيادته.
إن الذين يحاولون شيطنة القوات اللبنانية يعيدون إحياء خطاب تجاوزه الزمن. القوات لا تُقصي أحدًا، بل تُقصي منطق الدويلة عن منطق الدولة، ومنطق الخضوع عن القرار الحر. فالتنافس لا يُهدد الشراكة، بل يصونها، والتنوع لا يُضعف الوطن، بل يحميه. ومن يريد أن يجعل السياسة ميدانًا للتخوين سيخسر الناس، بينما من يُعيدها إلى منطق الدولة سيكسب المستقبل.
لبنان لا يحتاج إلى زعامات تتقاسم الطوائف، بل إلى رجال دولة يعيدون إليها كرامتها من خلال دولة قوية وعادلة. وهذا بالضبط ما تمثله القوات اللبنانية اليوم: حزبٌ يعمل بمنطق الدولة لا بمنطق الهيمنة، ويفتح الطريق أمام جميع اللبنانيين ليكونوا شركاء في وطن واحد، سيادته غير قابلة للمقايضة ولا للاحتكار.