باتَ من شبه المؤكد ألا حلول جذريةً لِما يجري حالياً على الساحتين الغزّاوية واللبنانية، قبل جلاء غبار المعركة الرئاسية الأميركية التي تُخاضُ راهناً في واشنطن.
كما بات من المؤكد أيضاً أن الإدارة الأميركية الحالية لم تعد قادرة على فرض أجندتها ورؤيتها، ليس على إيران ووكلائها فحسب بل على حكومة إسرائيل اليمينية المتطرّفة برئاسة بنيامين نتنياهو، الذي باتَ يلعبُ أوراقه في هذا الوقت المستقطَع لتحصين موقف إسرائيل إزاء أي تبدّلٍ مقبلٍ.
في هذا السياق، يجب أن لا ننسى أن الإدارة الديومقراطية منذ باراك أوباما وصولاً الى جو بايدن ساهمت مساهمةً مباشرةً في شرعنة ميليشيات إيران في المنطقة، حتى أنها حمتها، وفي هذا السياق نذكرُ على سبيل المثال لا الحصر موقف الإدارة من شطب الحوثيين عن لوائح الإرهاب، كما التعاطي مع حزب الله في لبنان لإنجاز اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، الى ما هنالك من أمثلةٍ في العراق وسوريا وسواها.
الكلامُ المعسول والسلمي والمهادِن الذي نسمعه في الآونة الأخيرة من المسؤولين الإيرانيين، وعلى رأسهم الرئيس مسعود بزشكيان ومستشاره للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف وسواهم، عن الولايات المتحدة الأميركية والعلاقات معها ليس بجديدٍ، وهو تأتي ضمن إطار ما يمكن اعتباره ممارسة لـ”تقيّة استراتيجية” لأن إسرائيل، التي حشرت “حماس” في غزة لدرجة أنه لم يعد أمام الأخيرة سوى المطالبة بوقف إطلاق النار والتفاوض عليه في ظل العجز الغربي لإيقاف المجازر الإسرائيلية، أُضافت اليها حشر حزب الله الذي بدأ يدفعُ ثمنَ ربط حربه بحرب غزّة، وهو لم يعد بإمكانه التراجع عن هذا الترابط، وبالتالي بات يتلقّى الضربات الإسرائيلية الكبيرة، فيما لبنان واللبنانيون يدفعون الأثمان الثقيلة لخياراته وربطه هذا.
الانتخابات الرئاسية الأميركية تمثّلُ من حيث نريد أو لا نريد البوصلة والمعيار لتقرير مصير المنطقة والحروب فيها، فالجميع عدى بنيامين نتيناهو يحاولُ الاستحصال على هدنة في كلٍ من غزّة ولبنان للخروج من ورطته، إلا أن نتنياهو الذي لا يملكُ شيئاً ليخسره، يصرُّ على المضي في حربه لأنه يُدرك الحسابات الإقليمية والدولية الحالية، حيث إيران ليست على استعدادّ للدخول في المواجهة حتى لو زوداً عن “درّة تاجها” أي حزب الله في لبنان، وهي التي تفاوضُ الأميركيين على صفقة جديدة قد تتضمّنُ تنازلات مهمة تقدمها مقابل تجنيب الحزب المزيد من الخسائر والاستنزاف، كما في الملف النووي وفي العلاقات مع الروس، كما أن الأميركيين منشغلون بالانتخابات، ونتنياهو يفضّلُ منح الرئيس دونالد ترامب ورقة التفاوض في غزّة ولبنان بدل منحها لإدارة جو بايدن الراحلة أولاً وغير الصديقة له ولحكومته، متحسّباً أيضاً لمجيء المرشحة كمالا هاريس الى البيت الأبيض والتي لن تكون أبداً “صديقة حليمة” لنتنياهو …
تلك الحقائق تجعل إسرائيل تحاول في خلال الوقت الضائع تسجيل أكبر عددٍ من النقاط وخلق أمرٍ واقعٍ يسبقُ وصول هاريس أو ترامب: النقطة الأولى هي العمل على وقف الحرب، والثانية تكريس الأمر الواقع الذي يكون لصالح إسرائيل.
من هنا، فإن المنطقة معلّقة بأزماتها وحروبها على الخامس من تشرين الثاني المقبل، فإذا فازت المرشحة كمالا هاريس، هذا سيعني فوز اليسار الراديكالي المتحالِف مع الإسلاميين، وبالتالي العودة الى الملف النووي وعدم تطبيق القرار الأممي 1559، فضلاً عن فتح المجال أمام الميليشيات لاستحصالها على اعترافٍ شرعي بوجودهم وإعطائهم دوراً على طاولة التفاوض المستقبلية .
أما في حال فوز المرشح دونالد ترامب، فإن كل السيناريوهات أعلاه سيتسقطُ في ظل “أوراقٍ جمهورية” تعيدُ العمل بالورقة العربية والخليجية إقليمياً وبالعقوبات على إيران ومحاصرة الميليشيات والاستثمار دولياً، في الوقت الذي تكون فيه إسرائيل قد أنجزت ما أنجزته من الآن والى ذلك الحين.
وصول الرئيس دونالد ترامب، لا بل عودته الى البيت الأبيض، سيعزّزُ قوة الإنجيليين المسيحيين والتيارات المتماهية معهم أمثال تيار المرشح روبيرت كينيدي، حيث ستُعطى الأولوية للحدود الأميركية- المكسيكية في الداخل، مشفوعةً بسلسلةٍ من الإصلاحات في الإدارة ونظرة جديدة الى منطقة الشرق الأوسط، فالشراكة الأميركية- العربية- الخليجية ستعيدُ للمملكة العربية السعودية دورها المحوري في تقرير مصير المنطقة وقلب التوازنات الاستراتيجية فيها.
إيران تدركُ كل هذا الكمّ من الاستحقاقات الممكنة، ولذلك نراها حالياً تعمل كل ما في وسعها لإنجاح الديمقراطيين مجدّداً خصوصاً وأن أول ما يمكن أن تفعله الإدارة الجمهورية سيتجلّى في وقف إرسال الأموال لإيران وعودة العقوبات عليها، وربما الذهاب الى اتفاق نووي لكن بشروط ترامب، هذا إن سمحت له قاعدته الشعبية بذلك، التي ترفض رفضاً قاطعاً حتى الآن أي اتفاقٍ مع إيران ونظامها، ولا حتى مع حزب الله وحماس .
الإدارة الديمقراطية الحالية في البيت الأبيض تلتزمٌ الدفاع عن إسرائيل ضد أي اعتداءٍ عليها، وقد أبلغت الإيرانيين بأنها لن تتهاون ولن تتردّد في التدخّل لمساعدة إسرائيل إن هي تعرّضت لأي هجوم خارجي، وهذا الأمر هو الذي شكّلَ السبب الأول لتردّد إيران بالتدخّل في مؤازرة حزب الله الى جانب مفاوضاتها على مصالحها ومكاسبها الأخرى، وما كلام الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان الأخير حول عدم قدرة الحزب لوحده في مواجهة إسرائيل سوى من باب إيصال رسالةٍ مزدوجةٍ للحزب وللأميركيين في آن .
والملاحظ في الآونة الأخيرة أن واشنطن تتولّى مفاوضة أعداء إسرائيل عنها لعدم توسيع المواجهات والانزلاق نحو حرب شاملة لا تريدها واشنطن كما طهران كما الغرب والأوروبيين، وفي الوقت ذاته تضغطُ واشنطن على تل أبيب باستمرار للحدِّ من أي هجوم إسرائيلي على محيطها كما في لبنان، والضغط عليها لعدم الذهاب كثيراً في حربها على الحزب.
المنطقة على شفير الهاوية الكبرى وكل الاحتمالات واردة حتى أسوأ السيناريوهات المدمّرة، فيما الحسابات تتبدّلُ وتتعدّلُ تِبعاً لتطورات الميدان، وانزلاق الحرب الى أوسع منها انطلاقاً من لبنان ممكنٌ في أي وقت، لكن الأكيد أن نتنياهو يعمل كل ما هو ممكن من أجل الاحتياط من المرحلة المقبلة اعتباراً من 5 تشرين الثاني المقبل.