بعد السابع من تموز: المشهد السياسي الفرنسي نحو البرلمانية المبعثرة

france

تمكّنَ ائتلافُ الجبهة الشعبية الجديدة في فرنسا الفوز بأكبر عدد من المقاعد في الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية حاصداً 182 مقعداً، علماً أن هذا الائتلاف يضمُّ اليسار المتطرّف والاشتراكيين والخضر، فيما نالَ حزبُ التجمّع الوطني وحلفاؤه من اليمين الجمهوري 143 مقعداً، ونال الجمهوريون وائتلاف اليمين الوسطي 68 مقعداً، أما تحالف الرئيس إيمانويل ماكرون المنتمي أيضاً لتيار الوسط فقد حلَّ في المركز الثاني ب163 مقعداً خاسراً بذلك أكثريته حتى النسبية بعدما خسرَ أكثريته المطلقة منذ انتخابات العام 2022. 

الائتلاف اليسار وضرورة التفاوض مع قوى أخرى

إئتلاف الجبهة الشعبية الجديدة أصبح اذاً أكبر قوة في البرلمان الفرنسي، لكنه تحالفٌ وليس حزباً واحداً كي تُقاس قوته الانتخابية على أساس شعبية حزبية واحدة، ونعني بها شعبية حزب “فرنسا الأبية” بزعامة جان لوك ميلانشون، فهذا  التحالف الذي يضم “فرنسا الأبية” والحزب الاشتراكي والخضر والشيوعيين، لا يزال بعيداً عن الأغلبية المطلقة التي تمكّنه من حكم فرنسا أي 289 مقعداً كحدٍّ أدنى، وبالتالي ومع عدم وجود أغلبية سيكون الائتلاف اليساري مضطراً للتفاوض مع قوى أخرى، وفي مطلق الأحوال الفوز لا يعني حتمية تعيين شخصية من الفريق الفائز بأكثرية لترؤس حكومة جديدة إذ ان الدستور يتيح للرئيس اختيار مَن يراه مناسباً لرئاسة الوزراء، لكن جرت العادة أن يختار رئيس الدولة شخصاً مقبولاً لدى المجلس، وهو في الغالب يكون من أكبر كتلة في الجمعية الوطنية، والعقبة الكعداء التي قد تواجه أي رئيس وزراء يساري في أي حكومة عتيدة تتمثّل في إمكانية  تكرار تصويت حجب الثقة عنه اذا ما توافق  يمين الوسط واليمين المتطرّف على إسقاطه، فكيف إذا انضم اليهم معسكر الائتلاف الحاكم حالياً أي معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون؟

حكومة إئتلافية ببرنامج تشريعي

من المعروف أنه، وخلافاً للعديد من الدول الأوروبية، لم تشهد الحياة السياسية والدستورية في فرنسا يوماً سوى ظاهرة واحدة هي ما سُمّي “بالمساكنة” كما على أيام الرئيس جاك شيراك مع الاشتراكيين في حكومة ليونيل جوسبين، أما ظاهرة  تشكيل ائتلافات واسعة فمنذ الجمهورية الرابعة لم تعد مطبّقة لكن بعض الشخصيات من اليسار والوسط أشارت  إلى إمكانية أن تكون هذه الصيغة مخرجاً سياسياً في حال شلل الجمعية الوطنية.

 في هذا السياق، توحّدَ الرأي بين  رئيس الوزراء السابق إدوارد فيليب، وحليف ماكرون منذ فترة طويلة فرانسوا بايرو، وزعيمة حزب الخضر مارين تونديليه على اعتبار احتمالية تشكيل حكومة إئتلافية حلاً مناسباً لمواجهة الجبهة الوطنية يكون برنامجها تشريعياً بالدرجة الأولى.

زمن الأغلبية المطلقة ولّى في الانتخابات الفرنسية

الواضح من المشهدية الانتخابية المتكرّرة مؤخراً في فرنسا على مستوى الانتخابات التشريعية الأوروبية والانتخابات الرئاسية والانتخابات التشريعية الفرنسية أن زمن الأغلبية المطلقة قد ولّى، ويبقى أن تشكيل ائتلاف رئيسي، رغم أنه ممكن من حيث المبدأ، لكن دونه عقبات ليس أقلها التباين لا بل التناقض أحياناً في برامج و مواقف الأحزاب بشأن قضايا مثل الضرائب ومعاشات التقاعد والاستثمار في الطاقة النظيفة، ما يجعل فكرة تحقّق مثل هذا الائتلاف بعيدة المنال، أما لجهة استراتيجية قيام الأحزاب الرئيسية بتشكيل تحالفات مختلفة مخصّصة للتصويت من خلال التشريعات الفردية، فالسوابق أثبتت أن الرئيس إيمانويل ماكرون  جرّبَ هذه الصيغة غداة  خسارته أغلبيته النيابية  في انتخابات عام 2022  من دون الكثير من النجاح بحيث اضطُرت حكومته مراتٍ عدة الى اللجوء لاستخدام   المادة 49.3 من الدستور والتي لا تحظى بقبولٍ من القوى المعارضة  لتمرير التشريعات من دون الحاجة الى تصويت برلماني.

هل تتصدّر حكومة التكنوقراط المشهدية السياسية في فرنسا؟

بقي خيارٌ أخيرٌ  لتأمين سيرورة الحكم ألا وهو اللجوء الى تعيين حكومة تكنوقراط، وفق المثال الإيطالي، مكوّنة من تقنيين خبراء مثل كبار موظفي الخدمة المدنية والأكاديميين والدبلوماسيين والاقتصاديين وقادة الأعمال أو النقابات العمالية، لكن عندها سيكون على الرأي العام الفرنسي التأقلم مع هذا النوع من الحكومات التي لم تشهد فرنسا مثيلاً لها عبر تاريخ الجمهورية الخامسة التي تأسست على فكرة حكم المؤسسات والتحكيم بين المكوّنات السياسية من داخل المؤسسات الدستورية.

 رئيس الوزراء الحالي غبريال أتال قدّمَ استقالته كما وعدَ ليلة انتهاء الدورة الثانية بعد النتائج التي أسفرت عنها ما يفتح المجال أمام الرئيس ماكرون الطلب من أتال الاستمرار في تسيير شؤون البلاد وتحويل حكومته الى تصريف الأعمال بما يشبه ترحيلاً موقتاً لنتائج الانتخابات وخُلاصاتها، خصوصاً وأن فرنسا في هذه المرحلة أمام استحقاق الألعاب الأولمبية والدولة بحاجة لتجميع قواها وإمكاناتها الضخمة لضمان حصولها في أفضل الأوضاع والظروف الممكنة.

لا أكثرية مطلقة أو نسبية

بالانتظار فإن المؤكد من نتائج ليلة السابع من تموز 2024 الآتي :

-أولاً : خسارة ائتلاف الرئيس ماكرون أكثريته النسبية وبالتالي إضعاف معسكره داخل الجمعية الوطنية.

-ثانياً : عدم حصول أي فريق على أكثرية قوية سواء مطلقة أو نسبية قوية ما يُلزمُ الأفرقاء على التعاون والتحاور والائتلافات الموضعية والتنازلات المتقابلة، وألا ستصبح فرنسا غير قابلة للحكم لفترة لا تقلُّ عن عامٍ، وهي الفترة التي لا يحق للرئيس الفرنسي خلالها حل الجمعية الوطنية مرة ثانية.

-ثالثاً : عدم تمكن أقصى اليمين المتمثّل بالتجمّع الوطني بزعامة الثنائي مارين لوبان وجوردان بارديلا من نيل أكثرية حاكمة لا بل تراجعه في عدد المقاعد بشكل مفاجئ ودراماتيكي عما كانت عليه في الدورة الأولى في الثلاثين من حزيران الماضي تحت تأثير 200 تنازلٍ بين مرشحين من الصف الجمهوري الديمقراطي لبعضهم البعض تعزيزاً لجبهة مقاومة نيل التجمّع الوطني الأكثريات المطلوبة، وتحت تأثير الاستنفار والتعبئة الشعبية الضخمة التي خاضتها قوى اليسار بين الدورتين الانتخابيتَين، بما أدّى الى قلب النتائج وتراجع التجمّع الوطني تحت وطأة هذا الضغط السياسي والشعبي.

 نتائج الانتخابات الفرنسية التشريعية ستدعو كل فريق سياسي اعتباراً من اليوم الى إعادة النظر في العديد من منهجياته وسياساته وتحالفاته وحساباته، فيُعاد بالتالي تشكيل المشهد السياسي الوطني على وقع برلمانٍ مبعثرٍ ومشتّتٍ أقله حتى العام المقبل، علماً أن الجمهورية الخامسة تتحوّل يوماً بعد يوم الى جمهورية برلمانية نصف رئاسية بإرادة الفرنسيين الذين صوّتوا بنسبة ثلثي الناخبين تعبيراً عن الحاجة الى التغيير ومنع وصول أقصى اليمين الى السلطة.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: