كتب جورج أبو صعب: مما لا شك فيه أن الملف الأوكراني – الروسي عشية تطورات جذرية ترسم نهاية حقبة الحرب والدخول في مرحلة المفاوضات لتنظيم التنازلات المتبادَلة أمام الراعي الأميركي الجديد، الذي ينظر الى الحرب بين البلدين على أنها “مضيعة” للوقت و”تضييع” للفرص والإمكانات.. والاستثمارات.
الحرب على أبواب التوقّف لأن كلاً من موسكو وكييف ترغبان كل واحدة من منطلقاتها إنهاء المأساة، فلا الرئيس فلاديمير بوتين تمكّن من اجتياح أوكرانيا وإسقاط نظام الرئيس فولوديمير زيلينسكي، ولا كييف تمكّنت من تحقيق انتصارات استراتيجية كبرى من خلال الوصول الى رأس الكرملين، وقد غاصت الحرب منذ اكثر من سنة في عمليات كرٍّ وفرٍّ على الجبهات الشرقية للبلاد استنزفت الجيشين الروسي والأوكراني والسكان ومقوّمات الصمود والمقاومة.
المعادلة الأوكرانية – الروسية اليوم أمام تبدّلات وتغييرات يقودها بإلحاح وإصرار البيت الأبيض وتحديداً الرئيس دونالد ترامب الذي يريد إنهاء الحرب بالطرق السلمية انطلاقاً من تقديم كل طرفٍ تنازلات للآخر: فعلى روسيا القبول بدخول أوكرانيا الاتحاد الأوروبي في مقابل تعويضات مالية واستثمارات، وعلى أوكرانيا القبول بتغييرات جيوغرافية في خريطة أوكرانيا كمثل تكريس القرم ومقاطعتي شرق أوكرانيا لروسيا كمنطقة نفوذ، وفي نفس الوقت “منطقة فصل” في مقابل امتناع الناتو عن تهديد الأمن القومي الروسي .
روسيا المعتدية على الإقليم الأوكراني لم تربح رهانها بإسقاط كييف وحكمها لأن توازن القوى في عهد الرئيس الأميركي السابق جو بايدن كان لصالح الأوكرانيين مع الاتحاد الأوروبي، اما مع الجمهوريين فتوازن القوى لم يعد المصدر بل النتيجة أي كيفية تفسير التوازن السابق صلحاً بين البلدين انطلاقاً من تكريس كل طرف شيء منه للطرف الآخر من دون أن يشكّل ذلك تعدّياً صارخاً على سيادة الدول ولا على حقها في تقرير مصيرها.
المفاوضات اذا وضعت على نار حامية والجهود الروسية المستمرة لتصوير أوكرانيا بأنها باتت معزولة منذ وصول الرئيس دونالد ترامب وتوقّف الدعم الدولي لكييف فاشلة وغير واقعية لأن الرئيس ترامب نفسه لم يقل ولم يُشر، لا من قريب ولا من بعيد، الى انحيازه للجانب الروسي ووجهة نظر موسكو، والا لما دعى الى المفاوضات وهو يجهّز لها بشكلٍ مركّز لإنجاحها في حل أشرس حرب عرفتها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
مما لا شك فيه أيضاً أن كييف نجحت الى حدٍّ كبير في تبديد الشكوك منذ اندلاع الحرب في 24 شباط 2022 من إمكانية صمود كييف في وجه الهجوم الروسي من خلال ما أظهرته القيادة الأوكرانية من تماسكٍ سياسي وعسكري وذكاء واستراتيجيا عسكرية متقدّمة، وقد بات الرئيس الأوكراني رمزاً لقائدٍ شجاعٍ وعنيدٍ ومقاتلٍ لوطنه يُحتذى به .
نجحت كييف في الأسابيع الأخيرة في استعادة الأراضي المحرّرة والحفاظ عليها بنجاحٍ، وكما نجحت القوات الأوكرانية في منع الاختراقات واسعة النطاق من قبل قوات موسكو على طول الخطوط الأمامية واحتواء القدرات الهجومية للروس وإلحاق خسائر جمة بالبنية التحتية العسكرية الروسية، ونجحت القوات الأوكرانية في إيقاف التقدّم الروسي في خاركيف ومنعت الهجوم على سومي حائلة بذلك من دون إنشاء قوات موسكو منطقة عازلة شمال شرق البلاد.
وفي شهر آب من العام الماضي، نفذت القوات المسلحة الأوكرانية عمليات حاسمة في منطقة كورسك الروسية مما أجبر الجيش الروسي على إعادة انتشاره وزيادة عديد قواته الى 50 ألف جندي روسي على تلك الجبهة، وكان ذلك على حساب إضعاف مواقع روسية أخرى، وفي نهاية العام المنصرم ألحقت قوات كييف خسائر ضخمة بالأفراد والمعدّات الروسية، مما أدى الى شلّ قدرة الجيش الروسي على مواصلة العمليات العسكرية الهجومية.
فشلت موسكو في دعايتها ضد الأوكرانيين واختلاق الأكاذيب حول عمليات فرار من الجيش الأوكراني وفوضى التعبئة للجنود وسواها، في وقت حقق الجيش الاوكراني إنجازات في التدريبات التي خضع لها عشرات الالآف من أفراد الجيش الأوكراني مع شركائهم في حلف شمال الأطلسي، والجنود والضباط الأوكرانيون هم شديدو العزم والإصرار والتحفيز للزود عن وطنهم، وقد كانت وطنيتهم أحد العوامل الحاسمة في عرقلة التقدّم الروسي.
هذا العام، يُتوقّع تزويد كييف بمساعدات عسكرية من أوروبا والناتو بقيمة 12 مليار يورو في وقت باتت الحرب الروسية على أوكرانيا بمثابة قضية حرية وديمقراطية عالمية غير محصورة فقط بالنزاع الحدودي بين البلدين، ومن هنا مصلحة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في التفاوض مع كييف والقبول بالجلوس مع نظيره الأوكراني ومع الراعي والوسيط الأميركي، فروسيا في عزلة اقتصادية مستمرة وفي شحٍّ في مواردها، ما يشكّلُ رادعاً كبيراً أمام تراجع قدرة موسكو على مواصلة الحرب، وقد بلغ الأمر بالرئيس بوتين الى الاستعانة بجنود كوريين شماليين للقتال ضد أوكرانيا كدلالة على قلة الموارد الروسية والقدرات في الاستمرار بالحرب، ما يهدّد بانهيار القوة الاقتصادية والعسكرية لروسيا تحت وطأة العقوبات والمجهود الحربي الروسي المستنزِف لها ولطاقاتها.
نجح الأوكرانيون في تحويل حرب روسيا عليهم الى حرب بقاء أوروبا الديمقراطية الآمنة، وكييف مصمّمة على عدم التراجع، وفي نفس الوقت منفتحة على المفاوضات لحلٍ سلمي استجابةً لطلب البيت الأبيض الجمهوري والرغبة في سلام عادل وشامل ونهائي يخرجُ عن نمطية اتفاقيات مينسك التي أثبتت ضعفها وهشاشتها .
فهل يأتي الصحيح والجدّي والنهائي من البيت الأبيض ومن داخل أروقة المفاوضات في المملكة العربية السعودية؟
فكم هو مهم للرياض استضافة مؤتمر السلام الروسي – الأوكراني كدلالةٍ واضحة على دور المملكة المحوري إقليمياً ودولياً في زمن الجمهوريين في البيت الأبيض.