أجمع المواطنون اللبنانيون المقيمون منهم في لبنان والمنتشرون خارجه في أصقاع الأرض على وصف المرحلة، والتي حدد معالمها خطاب القسم الذي القاه الرئيس جوزيف عون، والتي أكد عليها الرئيس المكلف نواف سلام بعيد تكليفه، بالمرحلة الهامة الحاسمة والجديدة، مستشرفين منها جمهورية ثالثة سيدة حرة مستقلة، تطوي مراحل سابقة من الفساد، والطغيان والمكابرة والاستئثار والضغوط والفرض والمسايرة والقبول والانصياع والخذلان والخضوع والاستزلام.
من الطبيعي أن يستنفر الخاسرون والمتضررون من المرحلة المرتقبة المستشرفة والمستفيدون من ويلات المراحل السابقة، محاولين وعاملين بجهد وجد لتعطيل أو تشويه أي تقدم نحو بناء فعلي لدولة القانون والمؤسسات والشفافية والكفاءات.
لا نبالغ إن قلنا بأن ما خفف منسوب تفاؤل وارتياح اللبنانيين هو في ما سبق ورافق ولحق الانتخاب والتكليف، وما يسبق التأليف، من تسريبات وحملات ومطالبات وكلام عن اتفاقات وصفقات وضمانات، حول ثوابت لم تكن يومًا ثابتة بقوة القانون والدستور ومعادلات ساقطة أيضًا بحكم الواقع والقانون والدستور الذي أقسم عليه الرئيس الذي أيده في الحقيقة 72 نائبًا من أكثرية الممثلين للشعب اللبناني.
قد يكون أكثر ما أشعر هؤلاء المتفائلين والمتأملين بالخيبة والتشاؤم، هو في ما سمعوه من رئيس كتلة الوفاء للمقاومة الحاج محمد رعد بعيد خسارة مرشح المرحلة السابقة لرئاسة الحكومة نجيب ميقاتي، مهددًا متوعدًا مدعيًا خديعة وكمينًا ونكثًا لوعود وضمانات، ملوحًا متوعدًا بمقاطعة العهد وبشبه حرب أهلية، ليتبيّن وعلى لسان حليفه في حركة “أمل” النائب علي حسن خليل، وبعد أربعة أيام، أن ما عرضه رعد محرّضًا الطائفة الشيعية الكريمة كما السلم الأهلي تحت ادعاء إقصاء الشيعة عبر الخديعة والمؤامرة والانقلاب، لم يكن الا أداةً من أدوات الاستفزاز والابتزاز للحصول على ما لا يحق لـ”الحزب” ولا للثنائي الذي دأب على فرضه، كحقوق مكتسبة وهي في المفهوم القانوني والدستوري مواقع مغتصبة بقوة الأمر الواقع السابق، التي أطاحت بها الوقائع والتطورات… وما إصرار “الحزب” – وعلى لسان نائب رئيس مجلسه السياسي الحاج محمود قماطي في آخر إطلالة له – على الترويج لادعاءاته حتى بعد توضيح “خليل حركة أمل” ودحضه لادعاءات “رعد الحزب”، الا تحضيرًا للانقلاب على العهد وتوتيرًا للأجواء المريحة التي رافقت انطلاقته، إذ كشف حزبه وكذبه في 19 كانون الثاني 2025 بقوله: “العراب الخارجي لم يفّ مع بري بالوعد الذي قطع له تجاه النقطة الأولى من الاتفاق، المتعلقة برئاسة الحكومة ولكن اليوم أعيد التأكيد على التفاهم بالنقاط المتبقية”، ضمن الرعاية الدولية للاتفاق تم التأكيد لنا على موضوع توقيع المراسيم الذي يحتاج لتوقيع ثالث هو لوزير المال وهناك حرص أن تبقى المالية ضمن إطار الثنائي الشيعي كي تؤكد على المشاركة الثلاثية بالبلد”.
ان أخشى ما يخشاه الضنينون على نجاح العهد والحكومة هو في عودة نغمة استئثار الثنائي بالحقائب الشيعية تحت حجة عدم الإقصاء، وفي تمسك هذا الثنائي الذي يقوده “الحزب” بحقيبة المالية تحت حجة “ليس هناك طائفة ممنوعة عنها”، مستظلين باتفاق الطائف والمشاركة والدستور ومستقوين طبعًا بما تبّقى من سلاح حربي، وبما يلوحون به من سلاح التعطيل والميثاقية، وصولًا للغاية الذهبية الا وهي انتزاع التوقيع الثالث في الجمهورية اللبنانية، أو الى ما لطالما سعى اليه الحزب باللين أو بالقوة وهي “المثالثة” ضربًا للمناصفة واستهدافًا للمسيحيين.
في تذرعه وتغطّيه باتفاق الطائف وبالميثاقية بغية استئثاره بحقيبة المالية، من الضروري الإشارة الى أن دستور الطائف والذي أقسم عليه الرئيس جوزيف عون، لم يأت على ذكر هذا الحق غير المكتسب بحكم القانون والدستور، إنما مغتصب بحكم قوة التعطيل والسلاح والتهديد، من الضروري الإشارة كذلك الى تعاقب وزراء كثيرين من غير الشيعة في حكومات تشكلت بعد الطائف وبموافقة الثنائي الشيعي ورضاه الضمني لـ”الحزب” والعلني لحركة “أمل” كالرئيس رفيق الحريري وفؤاد السنيورة وريا الحسن ومحمد شطح ومحمد الصفدي من السنّة وجورج قرم ودميانوس قطار وجهاد أزعور من الموارنة والياس سابا من الروم الأرثوذكس… ليصبح هذا الحق المزعوم والذي تتعرقل على أساسه مسيرة العهد وقد تتشوه، خطوة نحو فرض مشروع “الحزب” المعروف والمشهور والمنشور في السيطرة على لبنان وإلحاقًا بأيران.
لقد سبق لـ”الحزب” أن طرح في 14 تموز 2007 وفي مؤتمر سان كلو في فرنسا، تعديل الدستور بما يسمى “المثالثة”، ليعود وينتزع لاحقًا وبقوة السلاح والتعطيل، التوقيع الثالث باستئثاره بوزارة المالية، حتى أن المبادرة الفرنسية بمباركة الرئيس ماكرون خالفت ما صدر عن لقاء قصر الصنوبر في 7 آب 2020 وثبتت هذه الحقيبة للثنائي الشيعي الحزبي المذهبي.
اليوم وباحتفاظ الثنائي الشيعي بحاكمية المصرف المركزي بالإنابة وما يحكى عن تثبيتها للشيعة، والنيابة العامة المالية التمييزية، ورئاسة ديوان المحاسبة، يكون مسيطرًا على القرار المالي وآلياته بالكامل… وكل هذا لم يلحظه قانون ولا دستور، وتكلم عكسه خطاب القسم الذي تحدث عن المداورة في وظائف الفئة الأولى في الدولة… كما تكلم عكس هذا الاداء في الاستئثار والمحاصصة والادعاء بالحقوق، الإمام محمد مهدي شمس الدين في كتابه “الوصايا” الصفحة 27 ـ 28: “الى عموم الشيعة في مختلف الأوطان أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم ومجتمعاتهم وفي أوطانهم… ولا يخترعوا لأنفسهم مشروعًا خاصًّا، يميّزهم عن غيرهم تحت أي ستارٍ من العناوين، من قبيل إنصافهم ورفع الظلامة عنهم، أو من قبيل كونهم أقلية من الأقلّيات لها حقوق غير تلك التي تتمتع بها سائر الأقليات ولا يجوز ولا يصحُّ أن يحاولوا – حتى أمام ظلمِ الأنظمة – أن يقوموا بأنفسِهم وحدهم وبمعزل عن قوى أقوامهم بمشاريع، خاصّة للتصحيح والتقويم، لأن هذا يعود عليهم بالضرر ولا يعود على المجتمع بأي نفع”، ليكمل رده في الصفحة 55 ـ 56: “…وأكرّر وصيتي بأن يتجنّب الشيعة حقوق الطائفة والمطالبة بحصص في النظام”… كما تكلم الرئيس نبيه بري في 12 تشرين الاول 2004، عكس ادعاء واداء الثنائي الشريك في الثنائية المذكورة وفي الاحتكار والاستئثار: “لن نقبل أن يكون لفئة أو لطرف الحق في الفيتو على القرار الوطني”.
وفي الخلفية وتوضيحًا لحقيقة المشروع الذي يقف وراء عشق الثنائي وتحديدًا “الحزب” للمالية، يقول الأمين العام الراحل حسن نصرالله في 13 آذار 2018: “مكانة ولاية الفقيه فوق الدستور اللبناني”، كما يقول الكاتب المقرب اللصيق بـ”الحزب” قاسم قصير عن احتكام الثنائي للدستور، موضحًا ما قاله نصرالله وما يقوم به الثنائي حاليًا، في كتابه “الحزب بين 1982 و2016 الثابت والمتغير”: “كان بعض قياديي الحزب يبررون بقاء الالتزام بولاية الفقيه مع الانخراط أكثر في إطار الدولة اللبنانية.. وأن الولي الفقيه السيد علي خامنئي هو الذي شجع الحزب على تعزيز المشاركة في النظام اللبناني وأن الالتزام بالولاية لا يتعارض مع الانتماء الوطني والهوية اللبنانية… لكن هناك سؤالاً أساسيًا يطرح نفسه في هذا الإطار، ماذا لو تعارض قرار الولي الفقيه مع المصالح اللبنانية وما هي المصلحة التي يقدمها الحزب”؟
على ما سبق وبالإضافة الى حذافير اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في 27 تشرين الثاني 2024 ومندرجات الـ1701 وحذافير خطاب القسم في 9 كانون الثاني 2025، حبّذا لو يسلك الثنائي الوطني الحقيقي جوزيف عون ـ نواف سلام خارطة الطريق التي رسمها الكتاب المقدس في تأليف الحكومة وفي مسيرة حكمهما، إذ يقول الرب يسوع في انجيل متى 17-16: “ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق، لأن الملء يأخذ من الثوب فيصير الخرق أردأ. ولا يجعلون خمرًا جديدة في زقاق عتيقة، لئلا تنشق الزقاق، فالخمر تنصب والزقاق تتلف، بل يجعلون خمرًا جديدة في زقاق جديدة فتحفظ جميعًا”.