في لحظة يفترض أن يكون فيها القضاء الملجأ الأخير للعدالة، تظهر الوقائع اليومية لتكشف عكس ذلك تماماً، قضاء لا تزال تتحكم به الدولة العميقة إلى حد ما، وتتقدّم عليه الحسابات السياسية على حساب الحقيقة.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل الحكم القضائي الذي أصدره القاضي المنفرد الجزائي في المتن محمد فرحات والذي طاول رئيس جهاز الإعلام والتواصل في حزب القوات اللبنانية شارل جبور، وقضى بإدانة جبور بجرمَي القدح والذم، وذلك على خلفية العبارات التي وجّهها بحق النائب غسان عطالله.
جبّور أشار في حديثه لـLebTalks إلى إن "عطالله هو من بدأ بالقدح والذم والافتراءات السياسية عبر شنّ حملات تطال القوات"، لافتاً إلى أن "الرد لم يأتِ من فراغ، بل نتيجة اتهامات باطلة واعتداءات كلامية تصوّب على القوات اللبنانية بهدف تشويه صورتها، ومن يجب أن يحاكم هو مطلق هذه الاتهامات نفسه".
ويشدد جبور على أن "من يصف الدكتور سمير جعجع بأنه صديق الإرهابيين الذين قتلوا الجيش اللبناني إنّما يطلق ادعاءات خطيرة ومضلِّلة تخدم أجندات سياسية واضحة."
هذا الكلام، سواء اتّفق معه البعض أو اختلف، يسلّط الضوء على جوهر المشكلة، القضاء اللبناني لم يعد مساحة محايدة للفصل بين الاتهام والحقيقة، بل أصبح جزءاً من معركة النفوذ.
من الناحية الدستورية، يفترض أن يكون القضاء سلطة مستقلة، لكن من الناحية العملية، يتقاطع فيه النفوذ الحزبي، مصالح الزعامات الطائفية، التدخلات الأمنية، والضغوط المباشرة وغير المباشرة، وهو ما يعرّفه كثيرون بـ"الدولة العميقة"، شبكة مصالح متداخلة تحافظ على نفوذها عبر التحكم بالمؤسسات الأكثر حساسية، وعلى رأسها القضاء.
وبين من يملك القدرة على فتح ملف ومن يملك القدرة على أمثلة كثيرة، ملف انفجار المرفأ المجمّد، ملفات الفساد الإداري التي تُفتح وفق مزاج سياسي، وملفات تستخدم كورقة ضغط أو انتقام بين الخصوم.
في هذا المناخ، تصبح الاتهامات السياسية، مهما كانت خطيرة، لا تمر عبر قنوات قضائية مستقلة، بل عبر حسابات سياسية. وهنا تحديداً تكمن خطورة الواقعة التي أشار إليها جبّور، اتهام يضرب صورة فريق سياسي بالكامل يمكن أن يتحوّل إلى مادة للتحريض بدل أن يخضع لمسار قضائي حقيقي.
بدل أن يكون القضاء هو الحكم بين الأشخاص والجهات المتنازعة، يصبح طرفاً ضمن شبكة نفوذ، تتحكّم الدولة العميقة بتعيينات القضاة، بملفات التحقيق، بمصير القضاة الذين "يُكثرون الجرأة"، وحتى بإيقاع السرعة أو البطء في الملفات.
وإذا لم تُحرَّر السلطة القضائية من القبضة السياسية، سيبقى كل اتهام مادة سجال، وكل رد مادة توتّر، وكل خلاف مادة تعبئة، لا مادة عدالة.
والأخطر أنّ المواطن يفقد ثقته بوجود دولة أصلاً، لأن دولة بلا قضاء مستقل هي دولة بلا ركائز.