في منطقة بحمدون، عاش الأهالي طوال عقود تحت واقع غير طبيعي، رجل من أبناء البلدة، في العقد السادس من عمره، كان يستولي فعلياً على نبع مياه عائد للدولة اللبنانية. وعلى مدى نحو أربعين عاماً، تحكّم هذا الشخص بمصدر المياه، فكان يقطعها عن الناس والقرى المجاورة متى شاء، ويعيد ضخّها وفقاً لمصلحته الشخصية، من دون أي مسوّغ قانوني أو رقابي. الأخطر أن النبع جرى التعامل معه وكأنه ملكية خاصة، رغم أنه مورد عام يفترض أن يكون تحت إدارة الدولة ومؤسساتها المختصة.
وخلال كل تلك السنوات، لم تفتح أي إجراءات قانونية أو إدارية لمعالجة هذا الخلل، وبقي السكان خاضعين لأمر واقع فرضه شخص واحد تحكّم بمورد حيوي يخصّ مئات العائلات.
التحرك الحاسم جاء أخيراً بعد قرار أصدره النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي سامي صادر، قضى بوضع حدّ لهذا الوضع غير القانوني، وإعادة النبع إلى سلطة الدولة وإدارته الشرعية.
القرار شكّل نقطة تحول، ليس فقط لأنه أنهى ممارسات فردية عمرها عقود، بل لأنه أعاد الاعتبار لمبدأ أن الموارد العامة هي حق للجميع ولا يمكن احتكارها.
ولا يقتصر الأمر على بحمدون، ففي بلدة عين الرمانة في الشوف، كانت القصة مشابهة، استغلال لمصدر مياه عام، تحكّم غير قانوني بتوزيعه، وغياب كامل للرقابة الرسمية. ومع اتخاذ الإجراءات نفسها، أصبح الملف اليوم تحت إدارة الدولة، بما يضع حداً للفوضى التي عانى منها الأهالي لسنوات.
ورغم أن البعض يعتبر أن القاضي صادر يعتمد أسلوباً صارماً في هذه الملفات، إلا أن المعطيات على الأرض تظهر أن ما يحصل ليس تشدداً، بل تطبيقاً للقانون بعد مرحلة طويلة من الفلتان. فالفريق العامل معه يسير وفق خطة واضحة تعتمد على إعادة تنظيم المرافق العامة، ومنع الاستيلاء غير الشرعي على الموارد، وتثبيت حق المواطنين في الحصول على الخدمات الأساسية من مصادرها الشرعية.
إن إعادة ضبط إدارة المياه في هذه المناطق ليست مجرد إجراءات تقنية، بل خطوة تعيد الاعتبار لهيبة الدولة وتؤكد أن زمن الاستباحة الفردية للموارد العامة يمكن أن ينتهي حين تتوفر الإرادة.