في المشهد الخلفي لِما يدور في المنطقة

war#

كتب جورج أبو صعب:
 

كما كل شيء في التاريخ، عندما تدور أحداثٌ تكون المعادلات ما وراء الكواليس بنفس أهمية ما يحصل على الملأ،
ففي الوقت الذي نتابع ونشاهد فيه على مدار الساعات والأيام تطورات الحرب في غزّة وجنوب لبنان منذ السابع من تشرين الأول الماضي، ثمة معادلاتٌ معقّدةٌ وحساباتٌ استراتيجية وجيو سياسية تتسابقُ وتتقاطعُ بحيث تُرخي على المشهد العام أحجيات تدخلُ في توصيف المرحلة الحالية وتحليلها بكل أبعادها.
وانطلاقاً مما تقدّم، ثمة ظواهر تكشّفت عنها التطورات الحالية في المنطقة، ليس أقلها انحدار لغة التخاطب ولغة الصراع السياسي الى أدنى دركٍ يمكنُ تصوّره، فضلاً عن انقلاب المنطق وضوابط الفكر والتحكيم والتحكّم بمخرجات العقل.

بدايةً، دعونا نشيرُ الى ظاهرة قلما يتكلّمُ عنها أحد : ظاهرة التأثير التي باتت حركة حماس تمارسه على قسمٍ من الشارع العربي الإسلامي بدءاً من لبنان، حيث نجحَ حزب الله وتحت شعار “طوفان الأقصى” وتحرير القدس وحرب المساندة والإشغال في استقطاب قسمٍ من قلوب الشارع السنّي العربي واللبناني خصوصاً، غير آبهٍ بما يترتّب على ذلك من دعمٍ للأجندة الإيرانية في المنطقة على حساب أجندات الدول الوطنية وبخاصة في الخليج .
هذا الأمر يضع دول الخليج والأردن ومصر على وجه الخصوص أمام معادلةٍ صعبةٍ ودقيقةٍ ومعقّدة ينبغي تشريحها، بحيث أن تصاعد الدعم والتأييد الإسلامي السنّي لحماس وما قامت به منذ السابع من تشرين الأول الماضي يشكّلُ مصدرَ قلقٍ للحكومات العربية الإسلامية، ولا سيما المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية ومصر والأردن، نظراً للعداء المستحكِم بين نظرية “الإخوان المسلمين” التي منها تنبثقُ حماس وبين نظرة تلك الدول السيادية الى الإخوان وحماس باعتبارهما تهديداً وجودياً سبق لهم أن ذاقوه مع ما سُمّي ب”الربيع العربي” .

الى جانب هذه الظاهرة المقلِقة عربياً وإسلامياً، هناك أيضاً ظاهرة أخرى استشرت في خطاب محور تلك المقاومة وهي ظاهرة “التخوين المجاني” لكل مَن لا يتبنّى وجهة نظر هذا المحور، وسط أجواء تعبئة شعبوية قلَّ نظيرُها، وفي هذا السياق من المؤسف والمجحِد أن يتنكّرَ محورُ الممانعة وحماس والجهاد الإسلامي للمساعدات الإنسانية التي أرسلتها دولة الإمارات العربية المتحدة الى غزّة، فيما يمتدحُ هذا المحور دولاً أخرى لم ترسل ولو كيس أرزّ واحدٍ، وتدّعي مع ذلك تحرير فلسطين .

ظاهرةُ الجحود هذه، ذات الغايات والأهداف السياسية الخبيثة حتى من حماس والجهاد وأبواقهما الإعلامية والدعائية، تجدُ أيضاً صدى لدى قسمٍ من الشارع العربي والإسلامي، بحيث يتم امتداح الدول التي لا تساعد ومهاجمة الدول التي ترسل المساعدات والإعانات … إنه المنطق المقلوب …

أما بخصوص نغمة التخوين السائدة حالياً في المنطقة، فهي ليست بجديدة، لأنه لطالما استُخدم التخوين منذ العام 1948 ضد الملك فاروق، ثم ضد نوري السعيد وضد عبدالله الحسين ثم ضد فاضل الجمالي، وصولاً الى الملك عبد العزيز آل سعود … كلهم اعتُبروا خوَنةً من دون مبرّراتٍ أو أسباب موجبِة، إنما فقط لكونهم مختلفين مع طرفٍ آخر … فالتفكير الخاطىء والجهل المستشري مضافةٌ اليهما البروباغندا المزيفة والمحرّفة والمزوّرة والجيوش الالكترونية المدفوعة الأجر للتشويه والتزوير والتحريف والانحراف الفكري والثقافي، كلها عوامل باتت تنخر في جسم شعوب المنطقة.

أين مساعدات الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالمقارنة مع مساعدات دولة الإمارات ؟
أين مساعدات نظام الملالي بالمقارنة مع مساعدات المملكة العربية السعودية ؟
فمَن يساعدُ الفلسطينيين يُتّهم ويُرجم ويُخوّن، ومَن لا يساعدُ يُبَجّل ويُحترم …هي فعلاً ظاهرةٌ مقلوبة غريبة أخرى.
 

الصمتُ الإيراني تَكشّفَ عنه صمتٌ متعمدٌ كحجةٍ لتأجيل ذاك الردّ العجيب الغريب … فباتت طهران تستأخر ردّها، فيما وكلاؤها الإقليميون يستعجلونه كلٌ من منطلقاته … وقد تمكّن النظام الإيراني من إيجاد المخرج الديبلوماسي المبني على فكرة أن تأجيل الردّ هو بانتظار وقف إطلاق النار في غزّة، بغية عدم عرقلة المساعي الديبلوماسية المبذولة … وبالتالي لا ردّ …

في المقابل، يعمل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على رفض أي اتفاقٍ مع حماس بخصوص غزّة، وهو في الزاوية الضيقة لأن وزراء حكومته المتطرّفين أمثال سموتريتش وبن غفير يهددانه باستمرار بالانسحاب من الحكومة في حال قبوله بالاتفاق، ومن هنا نفهم تكتيك نتنياهو باللجوء في كل مرة الى شروطٍ جديدة تطيحُ بالاتفاق وبوقف النار، فيما حماس يناسبها أيضاً إلغاء أي اتفاق ويحيى السنوار يراهنُ على وحدة الساحات …
 
إيران لا علاقة لها بالقدس وفلسطين والأقصى، وكل ما يصدرُ عن طهران ليس سوى ذرّ الرماد في العيون، ولا تحرير لفلسطين على يد الإيرانيين …. فالقدس برمّتها لا تعني النظام في طهران، وما ذكر القدس سوى من باب ركوب موجة جلب الشارع العربي وإحداث شرخٍ داخل المجتمعات العربية وتحديداً الإسلامية
 

بالمقابل، ما يؤذي إسرائيل حل الدولتين … وحماس للأسف ساهمت في إحباط هذا الحل من خلال إسرائيل، التي بدورها استغلّت مواقف حماس وطوفان الأقصى وتداعياته من أجل إجهاض حلّ الدولتين التي كانت الرياض قابَ قوسين أو أدنى لو استُكمل التفاوض بين الرياض وواشنطن حول التطبيع.
 

الظاهرة الأخرى التي تعيشها المنطقة ولكنها لا تُذكر كثيراً هي ظاهرة صراع العقائد الدينية بين إيران وإسرائيل، ففي طهران صعودٌ لنجم الحرس الثوري الذي بنى عقيدته الدينية المتغلغلة في كافة مجالات الحياة الوطنية، وقد أصبح دولةً في قلب دولة اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً واستراتيجياً، وهو التيار المصدِّر الى المنطقة والذي يعبثُ بأمن شعوب ودول المنطقة وسلامتها،
بينما في إسرائيل هناك يمينٌ صهيوني متطرّف أيضاً يقارعُ التطرّف السنّي والشيعي، وقد اعتمد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو رويداً رويداً على التطرّف اليميني وبنى معه تحالفاً حكومياً هشاً …
فكلا التطرّفين الدينيين الإيراني والاسرائيلي اللذين يتصارعان حالياً نسفا أسسَ ثبات التخادم الذي لطالما كان جارياً بينهما لعقود … وبهذا المعنى يمكن القول إن 7 تشرين الأول كان نقطةَ التحوّل المصيرية لعلاقة تخادمٍ طويلة الأمد شارفت على النهاية بينهما …

الانتقال من التخادم من تحت الطاولة بين الدولتين الى التصارع فوق الطاولة ولو فولكلورياً كما حصل في نيسان الماضي، يعني أن البلدين باتا يعانيان من “مأزق الردع “، أما انهيار المفاوضات بخصوص وقف إطلاق النار وتبادل والأسرى في غزّة فيخدم الطرفين معاً، لكنه في الوقت عينه يضرُّ بهما لأنهما يحملهما الى المواجهة، وبالتالي الى اعتبار الملف النووي الإيراني من وجهة نظر إسرائيل أمراً ثانوياً أمام مصير الدولة الإسرائيلية.

إيران لم تكسر الدرع بالنووي … حتى عندما قصفت إسرائيل التي لم تعد قادرة على الاعتداد بالدرع، وبالتالي لا تستطيع تل أبيب تبديل السياق الاستراتيجي و الجيو سياسيي.

منذ المواجهة المباشرة في نيسان الماضي، والدولتان ترغبان بالعودة الى المعادلة الماضية، لكن الولايات المتحدة الأميركية ودول الإقليم يقفون في وجه القوى العقائدية التي كانت تتخادمُ، وقد أصبحت الآن في حالة مواجهة، وهنا المأزق العام …
 

ويبقى السؤال : ما هو موقف ودور العرب في كل هذا الخضم لاستعادة المبادرات كما استُعيدت اليد يوم وقّع على نهاية الربيع العربي الزائف؟
 سؤالٌ برسم الأيام والأسابيع وربما الأشهر المقبلة.
إنه مشهدٌ خلفي للمنطقة لا يقلُّ ضراوةً عن مشاهد الحرب والقصف والتدمير على سطح الأرض ..

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: