في خضمّ مرحلة تُعدّ من الأشدّ تعقيداً في تاريخ لبنان الحديث، حيث تتكالب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية على شعبٍ يعاني من الغلاء، وانهيار العملة، وفقدان الأمن الغذائي والصحي، فضلًا عن التوترات الأمنية المتنقلة والتهديدات الإقليمية، يطلّ علينا النائب الياس جراده باقتراح قانون لا يشغل بال أحد من اللبنانيين حالياً، بل يكاد يهدد ركناً أساسياً من أركان المجتمع اللبناني: مؤسسة الزواج.
النائب الذي يفترض أنه يمثّل شعباً مسحوقاً تحت ثقل الأزمات، اختار أن يضع في سلّم أولوياته اقتراح قانون موحّد للأحوال الشخصية، يُلغي بموجبه كل القوانين الدينية المعمول بها منذ تأسيس الدولة اللبنانية، متجاهلاً أن ما تبقّى من تماسك في هذا البلد المتهالك هو في الكثير من الأحيان بفضل هذه المرجعيات الروحية، التي لطالما صانت الأسرة وحمتها من التفكك والانهيار.
فهل من المنطق، في بلدٍ متعدّد الطوائف والمذاهب، أن يُطرح قانون موحّد يُقصي الخصوصيات الدينية والروحية التي تشكل جوهر الكيان اللبناني؟ وهل المطلوب فعلاً نزع القداسة عن سرّ الزواج، وتحويله إلى عقد "تسلية" جاف، خالٍ من الروحانية والالتزام الأخلاقي المرتبط بالإيمان؟
سرّ الزواج.. ليس عقداً قابلاً للتعديل
في المسيحية، كما في العديد من الديانات، يُعتبر الزواج سراً مقدساً لا يُفكّ إلا بالموت. إنه عهد بين رجل وامرأة أمام الله، لا مجرد عقد قانوني يخضع للمزاج أو الحسابات. إلغاء هذا المفهوم تحت ذريعة "التقدم" و"حقوق الإنسان" يشكّل تعدياً صارخاً على القيم التي نشأ عليها ملايين اللبنانيين.
وهنا يُطرح السؤال الجوهري: من فوض النائب جراده أو غيره من المشرّعين للعبث بأسس الحياة العائلية، تحت مسمى "التحديث"؟ وهل هذا هو الإصلاح الذي ينتظره اللبنانيون في زمن الجوع والهجرة والبطالة؟
الأولويات مقلوبة
لا يمكن فصل توقيت طرح هذا القانون عن السياق السياسي والثقافي الأوسع. فطرح قانون موحد للأحوال الشخصية، في ظل الانهيار، هو أشبه بمحاولة "تفخيخ" ما تبقى من استقرار اجتماعي. كيف يمكن لنائب انتُخب لتلبية تطلعات الناس الاقتصادية والاجتماعية، أن يغضّ الطرف عن انهيار المدارس والمستشفيات ويصوّب سهامه نحو مؤسسة الزواج والأحوال الشخصية؟
لبنان ليس بلداً علمانياً، بل هو دولة قائمة على التوازن الديني والطائفي، مهما حاول البعض إنكار ذلك. وقوانين الأحوال الشخصية الدينية هي جزء من هذا التوازن. فهل يُعقل نسف هذا التوازن تحت عناوين براقة، تخفي في طيّاتها مشاريع تفكيك الهوية اللبنانية باسم "المواطنة" و"التعددية"؟
الزواج في لبنان ليس مسألة إدارية، بل قيمة روحية واجتماعية ترتكز عليها بنية المجتمع. وكل مسّ بهذه المؤسسة، تحت أي عنوان، هو تهديد مباشر للنسيج الوطني. فليت النائب جراده يلتفت إلى مآسي الناس، قبل أن يُشرّع قوانين قد تفتح أبواب خلافات وانقسامات لا تُحمد عقباها.
فلبنان ملتزم بتعاليم الكنيسة والقرآن الكريم، وما تقرره المرجعيات الروحية هو ما يسري على أرض الواقع.