قمّةُ النورماندي: نقطة تحوّلٍ تأسيسية لمواجهة غربية روسية شديدة الاحتمال

macron

مَن يتابعُ وقائع مواقف وتصريحات القادة الغربيين على هامش “احتفالات النورماندي” أول من أمس في فرنسا، والتي حضرَها عددٌ كبيرٌ من قادة دول حلف “الناتو”، وفي مقدّمهم الرئيس الأميركي جو بايدن، يدركُ بسهولة أن شيئاً ما قد تغيّر في التحفّظات والقيود الغربية على أوكرانيا كشرطٍ لدعمها.

قمّة لمواجهة روسيا من خلال دعم أوكرانيا

اللافت بدايةً كانت الحفاوة التي استُقبل بها الرئيس الأوكراني فولوديمير زلنكسي من قبل القادة وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الأميركي جو بايدن، حفاوةٌ عنت ما عنته من موقفٍ أميركيٍ موحّدٍ في الدعم والمساندة والتصميم على مواجهة روسيا في أوكرانيا … وربما أبعد منها، وليس من السهل ولا هو أمرٌ بسيطٌ أن يُسمح للأوكرانيين باستخدام أسلحة أميركية وأوروبية الصنع لضرب أهداف داخل الأراضي الروسية، كما أنه ليس من السهل ولا بالأمر البسيط أيضاً أن يُعطى لزيلنسكي الحق بإسقاط طائرات أو مُسيّرات خارج الفضاء الأوكراني.

  قيود غربية تأزم الوضعية الميدانية للجيش الأوكراني على الجبهات

التبدّل الحاصل خصوصاً في الموقف الأميركي حول مدى صلاحية استخدام الأسلحة الأميركية وتجاوز تلك الصلاحية القيد القديم بمنع استخدامها ضد أراضي روسيا إن دل على شيء فعلى أمرين أساسيين :

-الأول، تحوّلُ في الموقف الغربي من أسلوب دعم أوكرانيا بعدما أيقنَ حلفاء أوكرانيا الغربيون أن اﻻستمرار في وضع ضوابط على الجيش الأوكراني واستخدامه السلاح الغربي ينعكسُ إيجاباً على وضعيات الجيش الروسي وموقف موسكو على الجبهات، بحيث في مقابل مراعاة الغرب لأمن وسلامة أراضي روسيا في الماضي، لم تراعِ موسكو في المقابل الضوابط التي رُسمت والحدود التي وضعت لها في حربها، واستمرت في القتال وفي تغليب موازين القوى لصالحها من دون هوادة …

-الثاني، حراجةُ الوضع الميداني للجيش الأوكراني على الجبهات التي يشنُّ الروس هجماتهم عليها، إذ إن  كييف ومع تعاظم الهجمات الروسية مؤخراً على جبهات القتال، أصبحت في وضعية الحاجة الشديدة الى استخدام الأسلحة خارج القيود التي كانت مفروضة على استخدام اﻻوكرانيين لها الاسلحة وتحديداً القيود  الأميركية.

من التنمية الى عودة المتاريس في أوروبا

هذا الموقف الغربي المتحوّل اختصره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه خلال ” احتفال النورماندي” عندما أشار الى عودة الحرب الى القارة الأوروبية بعد ٨٠ عاماً على تحريرها من النازية، وهو كلامٌ يعكسُ بوضوح انتقال الفكر الأوروبي من مرحلة التنمية والاقتصاد والتجارة والأنظمة الرقمية والمُناخ والبيئة الى مرحلة عودة إقامة المتاريس وتحويل كل أو جزء كبير من اقتصادات الأوروبيين الى اقتصادات حرب وطوارىء، كما يعكسُ اقتناع الأوروبيين بأن الخطر الروسي على أوكرانيا هو في الحقيقة خطرٌ روسي على أوروبا كاملةً.

سباقٌ محتدمٌ بين إضعاف “الناتو” وتقوية نفوذ بوتين

 كلام الرئيس الأميركي جو بايدن أكد بدوره العزم الغربي على الوقوف في وجه الطغيان والطغاة وأولهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ظل استنفار حلف “الناتو” عسكرياً واستخباراتياً للدفاع عن حرية القارة الأوروبية وسيادتها، ومن هنا فإن احتفالات النورماندي كشفت بما ﻻ يقبل مجالاً للشك عن احتدامٍ كبير وخطير للمواجهة بين روسيا ودول “الناتو”، فتلويح الرئيس الفرنسي ماكرون بإرسال قوات أوروبية الى أوكرانيا في السابق يبدو أنه بدأ يُلقي بظلاله على مجمل الخارطة الجيو سياسية لأوروبا وللصراع في أوكرانيا وعلى عقول الزعماء الأوروبيين والأميركيين، وبالتالي فإن كلمة السر الجماعية في ذكرى النورماندي كانت واضحة : ممنوعٌ السماح لروسيا بتحقيق انتصارّ عسكري على أوكرانيا بعد نيف وسنتين من الحرب لأن انتصاراً من هذا النوع يعني خسارة أوروبا وإضعاف “الناتو” وتقوية نفوذ بوتين في القارة والعالم.

إحتماليةُ الإنزلاق نحو الحسم تتزايد

كما كان بالأمس الخيار بين مستقبل زيلنكسي أو مستقبل بوتين، المعادلة أصبحت اليوم الخيار بين هزيمة بوتين أو هزيمة أوروبا، وبالتالي “الناتو” وحُكماً الولايات المتحدة الأميركية، فالتهديد المقبل هو سقوط خاركيف بيد الروس ثاني أكبر مدن البلاد، ما يجب برأي الخبراء الأطلسيين تنفيذ هجمات إنقضاضية ومُبكِرة ضد قوات الجيش الروسي ولو قبل دخولها الأراضي الأوكرانية، ما يعني عملياً إتاحة اعتبار القوات الروسية على المقلب الآخر من الحدود مع أوكرانيا أهدافاً عسكريةً للعمليات الحربية.

موسكو طبعاً لن تسكت، وقد جدّدت على لسان رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديميتري ميدفيفديف تهديدها باللجوء الى النووي التكتيكي، ما يفتحُ المجال أمام استنتاج الانزلاق التدريجي نحو المواجهة الدولية في أوكرانيا وما بعدها إن دخلت العمليات العسكرية الجديدة مرحلة الحسم المتبادَل بين الغرب والأوكرانيين والروس.

فضلاً عن ذلك، يأتي تلويح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخير بالردّ على ما يعتبره “اعتداءً غربياً ” بتزويد بلدان وجهات معادية للغرب بأسلحةٍ روسيةٍ متطوّرةٍ بعدما انسحبت روسيا من معاهدة “الحظر الشامل للتجارب النووية” العام الماضي بمثابة كشف أوراق احتياطية كان يملكها الرئيس الروسي وتركها للحظات الحرجة، علماً أن أعداء الغرب في العالم معروفين، وتتمُّ مواجهتهم سواء في الشرق الأوسط أو في أفريقيا أو في أميركا اللاتينية.

بالانتظار، واشنطن تُجري مناورات على صواريخ نووية عابرة للقارات، و وقد تحدّثت صحيفة “تلغراف” البريطانية عن خطة أطلسية لمواجهة واسعة النطاق مع روسيا … فيما الأوروبيون على موجة المواجهة باتوا في أجواء الحرب وتداعياتها والاستعداد لها.

سلاحٌ متطوّرٌ جديد لأوكرانيا و توسيع صلاحية استخدامه الى ما وراء الحدود مع روسيا … استخدام الودائع الروسية المقدَّرة قيمتها ب٢٩٥ مليار دولار لتمكين كييف من شراء الأسلحة … إننا أمام لحظة “خطر عالمي” وانعطافة خطيرة للحرب في أوكرانيا لا ندري متى وكيف يمكن أن تُفجّر صراعاً روسياً غربياً دولياً تكون فيه أوروبا وككل مرةّ عبر الحربَين العالميتَين الأولى والثانية المسرح المفضّل له.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: