عندما يتحوّل وطنٌ بكيانه المتنوع الضارب عميقاً في جذور التاريخ السحيق الى مجرد "مختبر" لفحص نسبة الإنتماء والوطنية لدى قسم من أبنائه من قبل قسم آخر مع كل محطة مفصلية من مسار الأحداث السياسية والأمنية فيه، وعندما تتحوّل المقاومة المسيحية اللبنانية بأبعادها الثلاث: الدفاع عن الإيمان والحرية والأرض في وجه الغزاة أياً كانوا، يصبح من المعيب "تخوين المسيحيين" مع كل طلعة شمس لأنهم رفعوا شعار "لبنان أولاً منذ أن حلّوا نساكاً مؤمنين على ضفاف العاصي الى مدافعين شرسين عن الوطن والكيان في عين الرمانة والأشرفية، رافضين إغراءات الهجرة القسرية ومتشبثين بكل شبر من ١٠٤٥٢ كلم٢ التي أرساها الرئيس الراحل بشير الجميّل "معادلة ذهبية" لا يمكن تهميشها مهما تضاعفت الضغوط أو حتى المغريات من كل حدبٍ وصوب.
منذ العام 1975 تاريخ اندلاع الحرب الأهلية المقيتة ومسيحيو لبنان يدفعون الأثمان الباهظة لثباتهم في أرضهم بحيث تُلقى عليهم عبارات يندُّ لها الجبين من عمالة وخيانة وارتهان الى الخارج فيما الشريك الآخر في الوطن وتحديداً سنّة لبنان اختار طوعاً الوقوف الى جانب القضية الفلسطينية، معتبراً أن الفصائل الفلسطينية المسلحة هي "الذراع الحامية" لوجودهم في لبنان قبل أن تنقلب المعادلة في السنوات العشرين الماضية مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي عاد وتبنّى عبارة "لبنان أولاً" لإدراكه أن كينونة لبنان هي في الولاء المطلق له قبل أي دولة أو محور خارجي، وهو ربما يكون قد دفع حياته ثمناً لهذه القناعة التي ترسخت لديه، وهي القناعة ذاتها التي ستنسحب لاحقاً على محطات كثيرة من السياسة التي انتهجها الرئيس سعد الحريري، ما أرسى قاعدة باتت ثابتة لدى السنّة في لبنان في تحوّل مفصلي أدى الى قلب الصورة النمطية التي كانت سائدة في السابق، كما أدى الى تدفيعهم ثمناً باهظاً أسوة بالمسيحيين من قبل النظام السوري الذي أمعنَ تنكيلاً وإرهاباً بشرائح كثيرة من اللبنانيين الذين ناهضوا وجود جيشه على أرض لبنان منذ أن دخل تحت غطاء "قوات الردع العربية" حتى تاريخ خروجه نهائياً ذات نيسان من العام 2005، علماً أن الغطاء السوري ساهم خلال الحرب الأهلية وما بعدها الى دمج الشيعة في الصراعات الداخلية فخلعوا عنهم عباءة حركة "المحرومين الشيعية" وانخرطوا في حركات سياسية مختلفة تطورت لاحقا الى فصائل وأحزاب مسلحة فاقمت من حدة الصراعات الداخلية بين بعضها البعض في البداية، ثم ضد الشركاء الآخرين في الوطن، مع توجيه السلاح الى الداخل في العام 2008 وفائض من القوة بهدف إخضاع الشركاء في الوطن وصولاً الى تكفيرهم وعزلهم وتخويفهم، ما شكّل معضلة إخراج الشيعة من دائرة الأرتهان الى النظام الإيراني ومطامعه وبالتالي استقوائهم بدولة ونظام ملالي يتحدى كل القوميات العربية كما وحدة المسلمين، علماً أن إيران وعلى عكس أيامنا اليوم كانت على عقيدة السنّة والجماعة ثم تحوّلت من مركز صراع ضد السنّة بعد تهميشهم على أراضيها الى المركز الرئيسي للشيعية مع ركيزتين لما يُعرف بالدولة الصفوية هما: المذهب الشيعي والعرق الفارسي.
فائض القوة هذا الذي دفع بأحد مسؤولي نظام الملالي الى التبجّح بأن إيران تسيطر على أربع عواصم عربية بما فيها بيروت لا يزال يكابر متجاهلاً أن لا أحد قادر على إلغاء وجود أحد وأن الهاوية التي التي يقف البلد على حافتها سيكون الجميع فيها خاسراً.
اذا كانت المقاومة بنت التاريخ فأي تاريخ يمكن أن يعيد نفسه اذا صحّت المعادلة على أبواب "شرق أوسط جديد" لم تتضح معالمه بعد وسط مخاض عسير يكبّد دول المنطقة أثماناً باهظة حتى لو كانت دولاً محصّنة أمنياً واقتصادياً وعسكرياً فيما يشكّل لبنان "الحلقة الأضعف" ضمن المظومة الإقليمية وهو غير قادر على تحمّل تبعات حرب جديدة أو مراكمة أزمات جديدة، ومَن يُقنع الفريق المسلّح والمتعنّت بمواقفه المدافعة عن ترسانته حتى آخر صاروخ بأن وحدة لبنان هي جوهر وجوده وأن ما كان يعرف "توازن الرعب" في مواجهة الكيان الإسرائيل لم يُرعب سوى اللبنانيين الغارقين بأزمات لا تُعد ولا تحصى، وأن مَن يطالب بتسليم السلاح الى الدولة اللبنانية ليس عميلاً يسعى الى تسليم السلاح الى إسرائيل.
الرهان، وسط أتون من اللاستقرار والأزمات المتلاحقة يبقى على الدولة القادرة والمصممة على إنهاء "الشواذ" المتمثل بسلاح حزب الله وباقي الفصائل المسلحة سواء كانت لبنانية أو غير لبنانية، والتزام لبنان بالحياد الإيجابي عن باقي الصراعات في دول المنطقة، وإلا لا سلام ولا ازدهار او بالأحرى على لبنان بتعدديته ونسيجه الفريد "السلام".