كتب شفيق طاهر:
في الثاني من آب 2025، بدأت أذربيجان ضخ الغاز الطبيعي إلى سوريا عبر الأراضي التركية، في خطوة وُصفت بأنها تحول مهم في خريطة الطاقة الإقليمية. التدفقات الأولية حددت بين 3.4 و4.3 ملايين متر مكعب يومياً، مع خطة لزيادتها إلى نحو 6 ملايين متر مكعب، أي ما يعادل 1.2 مليار متر مكعب سنوياً، وبإمكانية رفعها إلى حدود ملياري متر مكعب. يمر الغاز عبر تركيا وصولا إلى شمال سوريا من بوابة كيليس. وزير الطاقة التركي ألبارسلان بايراكتار ومسؤولو شركة SOCAR الأذربيجانية (شركة النفط والغاز الحكومية الأذربيجانية) أكدوا أن الصفقة تأتي ضمن خطة سوريا لإعادة بناء منظومة الطاقة لديها.
هذا التطور جاء نتيجة تحولين سياسيين بارزين: أولهما تحسن العلاقات بين أنقرة ودمشق بما يسمح بالتعاون في مجال الطاقة، وثانيهما رفع الولايات المتحدة العقوبات المفروضة على سوريا اعتباراً من الأول من تموز 2025، وهو ما أزال العائق القانوني الأكبر أمام مشاريع الغاز الإقليمية. القرار الأميركي شمل توجيهات وإعفاءات خاصة لتسهيل المعاملات المرتبطة بالطاقة والبنية التحتية.
الجدير ذكره أن افتتاح خط أنابيب الغاز بين تركيا وسوريا تم بتمويل قطري، وهو ما يعكس الدور المتنامي لرأس مال الخليج في تثبيت استقرار الطاقة بالمنطقة.
الأنابيب التي تهم لبنان
المسار الطبيعي لوصول الغاز إلى لبنان يمر عبر "خط الغاز العربي" الذي يمتد من مصر إلى الأردن وسوريا، ويتفرع من مدينة حمص إلى طرابلس ودير عمار شمال لبنان. هذا الخط كان العمل عليه في 2009-2010 لنقل الغاز المصري، لكنه توقف بفعل الاضطرابات الإقليمية. وفي 2021-2022، فشلت خطط إعادة تشغيله بقدرة 650 مليون متر مكعب سنوياً من مصر إلى لبنان بسبب العقوبات وصعوبات التمويل.
الجديد الآن أن خط كيليس حلب بات عملياً، وهناك حديث عن تمديده جنوباً نحو حمص، ما سيجعله متصلاً فعلياً بشبكة الغاز السورية الأساسية، ومنها إلى عقدة "خط الغاز العربي" المؤدية إلى لبنان. لكن حتى اللحظة، يظل هذا الخط مشروعًا منفصلًا، في حين يحتاج فرع حمص–طرابلس إلى فحوص وإصلاحات وتحديثات لأنظمة القياس قبل استقبال أي غاز غير مصري.
من الناحية الفنية، تعد محطة دير عمار الكهربائية (طاقتها نحو 465 ميغاواط) قرب مدينة طرابلس الوجهة الطبيعية لأي غاز يصل عبر الأنابيب. ومع تجميد أو تأجيل خطط استيراد الغاز المسال عبر وحدات التخزين وإعادة التغويز العائمة (FSRU) في الزهراني وسلعاتا، يبقى خيار الأنابيب عبر سوريا هو الأكثر واقعية للبنان على المدى القريب.
هل الكميات كافية؟ ومن سيدفع؟
تقول وزارة الطاقة السورية، إن الغاز القادم من أذربيجان عبر تركيا مخصص حالياً لتشغيل محطات كهرباء بسعة إجمالية تبلغ 1.2 ميغاواط، أي لتعزيز ساعات التغذية داخلياً، ما يجعل الشحنات الأولى محجوزة لهذا الهدف. لكن سقف المرحلة الأولى، وفقًا لشركة SOCAR والمسؤولين الأتراك، يبلغ ملياري متر مكعب سنوياً، ما يفتح المجال للتوسع إذا استوعبت الشبكة السورية الضخ الأولي بكفاءة، وتم تمديد الخطوط جنوباً، وتوفر التمويل اللازم للتعاقدات الإضافية.
بالنسبة للبنان، فإن اتفاق 2022 مع مصر والأردن وسوريا كان يستهدف 650 مليون متر مكعب سنوياً لتأمين نحو 450 ميغاواط (تعادل أربع ساعات كهرباء يومياً) لمحطة دير عمار. هذا الرقم يبقى معياراً منطقياً لأي بديل قادم من أذربيجان.
تمويل المشروع يظل التحدي الأكبر. فالاتفاق السابق ارتبط بشروط البنك الدولي وإصلاحات التعرفة الجمركية، بينما فتح رفع العقوبات الباب أمام دور خليجي جديد. المشاركة القطرية في تمويل تشغيل الخط بسوريا تعطي مؤشراً على إمكانية توسع الدعم ليشمل لبنان، سواء لإعادة تأهيل البنية التحتية أو لشراء الكميات المطلوبة. المبعوث الأميركي السابق الى لبنان آموس هوكستين أشار إلى أن ترتيبات الغاز بين مصر ولبنان "جاهزة للتنفيذ" بعد رفع العقوبات على سوريا، وهي صيغة يمكن إسقاطها نظريا على مسار أذربيجان لبنان إذا توافرت الإرادة السياسية.
المسارات المحتملة
- السيناريو أ: مبادلة وترابط سريع
- إرسال كمية مكافئة من الغاز الأذري عبر سوريا إلى حمص، ومنها إلى طرابلس عبر "خط الغاز العربي"، فور التأكد من سلامة الشبكة وتوافر الضواغط لمحطات الغاز. الخيار لوجستياً هو الأسهل لأنه يعتمد على بنية قائمة، لكنه يتوقف على جاهزية فرع خط غاز حمص طرابلس بعد سنوات التوقف.
- السيناريو ب: تمديد جنوبي لخط كيليس
- إنشاء امتداد من حلب إلى حمص، ما يحول واردات سوريا نحو تركيا بدل الأردن، ويمنح شركة BOTAS (شركة خطوط أنابيب البترول التركية) نفوذا أكبر على التدفقات. خيار أبطأ ويتطلب استثمارات رأسمالية.
- السيناريو ج: العودة لخيار الغاز المسال
- إحياء خطط وحدات إعادة التغويز العائمة في دير عمار أو الزهراني، وهو خيار باهظ وبطيء، ولا يزال مجمداً الى الان.
السياسة والعقود
أي تدفق عملي من أذربيجان إلى لبنان يحتاج أربع اتفاقات: عقد توريد مع SOCAR أو مبادلة مع BOTAS، اتفاق عبور مع تركيا، اتفاق عبور مع سوريا وهو ممكن الآن بعد رفع العقوبات عنها، وعقد شراء لبناني بضمانات دفع. العقبة الأكبر تاريخياً هي قدرة مؤسسة كهرباء لبنان على ضمان المدفوعات، وهو ما سيرسم حدود المخاطرة للشركاء الدوليين.
هناك إشارة إيجابية في دخول صندوق قطر للتنمية على خط تمويل التشغيل في سوريا، ما قد يفتح الباب لتوسيع الدعم نحو لبنان إذا اقترن بإصلاحات هيكلية في قطاع الكهرباء.
التوقعات والجدول الزمني
- قصير المدى (خلال 2025):
- إذا أُنجزت أعمال الصيانة المنخفضة الكلفة لخط حمص طرابلس، قد نشهد تجربة ضخ أولية لدير عمار، مستندة إلى اتفاق 2022 ولكن بمورد جديد وهو أذربيجان بدل مصر. العوائق القانونية أزيلت، وبقيت التحديات الفنية والمالية والسياسية.
- متوسط المدى (6–18 شهرًا):
- مع عمل خط كيليس حلب، وتعزيز ارتباطه بالشبكة السورية، قد تتمكن بيروت من الحصول على نحو 0.6 الى 0.7 مليار متر مكعب سنويا إذا ضمنت تمويل المانحين.
البعد الاستراتيجي
تسعى شركة SOCAR شركة النفط والغاز الحكومية الأذربيجانية تعزيز حضورها الإقليمي، فيما تعزز تركيا دورها كمحور لنقل الطاقة، وتضخ قطر أموالًا لدعم استقرار الإمدادات. هذه المصالح قد تلتقي لتأمين كميات صغيرة نسبيا من الغاز للبنان، لكنها مؤثرة اجتماعياً إذا استطاعت بيروت تلبية شروط الحوكمة والتمويل.
وصول الغاز الأذربيجاني إلى لبنان عبر سوريا أصبح ممكنا فنيا، وأقصر الطرق تمر عبر البنية القائمة لـ"خط الغاز العربي" بعد ربط حلب بطرابلس. التحدي اليوم ليس في الجغرافيا أو الاحتياطات، بل في الجهوزية الفنية وخيارات التمويل وقدرة لبنان على إقناع الشركاء بجدوى المشروع. إلا إذ اكتشف الغاز في المربعات المخصصة للاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز في المياه الاقتصادية اللبنانية، عندها يصبح امر استجرار الغاز الى لبنان من أي مصدر كان من الماضي.